السبب.. “حرب المدن”/ ميشيل كيلو
ما أن أبدى أحد الحاضرين استغرابه بقاء خطوط إمداد النظام مفتوحة في كل مكان طيلة فترة الصراع معه، حتى قال خبير عسكري: بالأصل، ليست معركة سوريا الراهنة غير حرب سيطرة على خطوط الإمداد، ولا يجوز أن تكون لها أي أهداف أخرى غير قطع خطوط إمداد جيش النظام، ولم يكن من الضروري أن تتركز أو تخاض في أماكن بعيدة عنها أو هامشية الأهمية بالنسبة إليها. حين أضاف شخص آخر ملاحظة تقول: إنها أيضا حرب للاستيلاء على مراكز التوجيه والسيطرة أو لتعطيلها، وعلى مستودعات الذخيرة والوقود، قال العسكري: من الأسهل قطع خطوط الإمداد، الممتدة على آلاف الكيلومترات وتخترق مناطق إما خالية من السكان، يسهل فيها نصب الكمائن وتنفيذ عمليات إغارة متتابعة، أو أنها تمر وسط كثافة سكانية قروية ومدينية تجعل عبورها حافلا بالمخاطر وعرضة لمختلف أنواع الهجمات، سواء من السكان أنفسهم أو من وحدات قليلة الأعداد حسنة التسليح سريعة الحركة، تقاتل على مبدأ «اضرب واهرب»، الذي يتيح للمنشقين من الجنود والضباط الالتحاق بالأهالي والاختفاء بينهم، والقيام بعملهم العسكري على أفضل وجه.
لكن النظام نجح في تموين جيشه وإمداده بالذخائر والأسلحة والوقود طيلة نيف وأربعة أعوام، رغم أن بلادنا تتمرد عليه من أقصاها إلى أدناها، وأن عددا هائلا من بناتها وأبنائها يحملون السلاح ضده، وأنه عاجز تماما عن الاعتماد على أي دعم يمكن أن يقدموه له، لأنهم بكل بساطة ضده من رؤوسهم إلى أخامص أقدامهم، ولا يترددون عن مقاتلته في أي موقع أو مكان، بعد أن أنزل بهم قدرا من الأذى جعل من المحال تعايشهم معه أو قبولهم به أو الامتناع عن مقاتلته بكل وسيلة وأداة.
واليوم، والمعركة تتحول أكثر فأكثر إلى معركة حول طرق الإمداد، والنظام يفقد أكثر فأكثر سيطرته على هذه الطرق والمساحات الأرضية الفاصلة بينها، يطرح نفسه سؤال حول السبب في بقاء طرق الإمداد مفتوحة أمام قوات النظام قرابة ثلاثة أعوام كاملة؟
أعتقد – أنا غير العسكري وغير الخبير – أن السبب يكمن في «حرب المدن»، الحرب التي اختارتها المعارضة أو فرضها النظام عليها – لا فرق – بكل ما شابها من محدودية مكانية وتفكك عملياتي وتشتت قيادي بلغ درجة من التشظي والتذرر يصعب تصديقها: من يصدق أن معارك نشبت ضد بعض الأحياء، وأن الأحياء المجاورة لها امتنعت عن مساعدتها، رغم علمها بأن سقوطها سيضعف موقفها ويهدد قدراتها ويسرع سقوطها هي أيضا؟ في حرب المدن، لا يتركز القتال على قطع طرق إمداد النظام، بل يتركز على انتظار قدومه إليها ومقاتلته داخلها، مما يترك له حرية الحركة ويلزم المقاومة المسلحة بقتال من الثبات خلو من حرب الحركة، التي تجبر قواته على اتخاذ اتباع استراتيجية دفاعية جوهريا مهما اعتمدت من تكتيكات هجومية، وترغمه على الدفاع عن مواقع ثابتة، بينما تتحرك هي بمرونة وتنتهج استراتيجية هجومية مهما تخللها من معارك دفاعية تكتيكيا.
بعد دمار معظم المدن، وعقد هدن غير متكافئة مع النظام كان آخرها في حمص: رمز الثورة ورافعتها الرئيسة طيلة أعوام، بدأت المقاومة تتحرك وإن بصورة محدودة، وأخذت حربها تدور حول طرق المواصلات والإمداد، وتتخذ شكل صراع مع النظام حول تموين قواته بالذخائر والطعام، وقطع طرق إمدادها، التي لا شك في أنها تمثل أخطر نقطة ضعف تواجهها، لن يكون من الممكن إيجاد حل مرض لها، بسبب كثافة المقاومة من جهة والانتشار الواسع جدا لوحداته المبعثرة والمشتتة من جهة أخرى، التي لن تقوى على الصمود لفترة طويلة، بمجرد أن تواجه مشكلة السلاح والطعام، وتجد نفسها معرضة لاضمحلال تنظيمي وقيادي متعاظم، ولضغوط نفسية سيعاني منها جنودها وضباطها، ناجمة عن وحشية وهمجية اعتداءات جيش السلطة على المواطنين العزل والمسالمين.
أخيرا، صرنا نسمع بمعارك لقطع الطرق السريعة، ولتقطيع وتشطير مناطق انتشار الجيش الأسدي. وبرزت معارك مميزة في هذا السياق كمعارك مورك وخان شيخون والطريق السريع بين إدلب واللاذقية، التي تعتبر معارك ناجحة جدا سواء في أساليب إدارتها، أو في عائدها العسكري والسياسي. هذه المعارك، تمثل انعطافة مهمة تثري حرب المقاومة ضد النظام وجيشه، ولا بد أن تغطي الأرض السورية، لأن انتشارها يعني إنزال هزائم متلاحقة بجيش سلطوي فككته قيادته كي ينشر الرعب في كل مكان وتطال يده كل سوري، لكنه سيجد نفسه تحت رحمة السوريين وفي متناول أيديهم، وسينحشر في قواعد قليلة ستزداد ضعفا وستتناقص عددا، وسيخسر ويخسر إلى أن يعلن استسلامه وحدة بعد أخرى، وموقعا بعد آخر.
إنها حرب طرق الإمداد، حرب الحركة والمرونة، التي لن يقوى النظام على مواجهتها، حتى إن عبأ حزب الله سائر مراهقي الضاحية الجنوبية وأرسلهم للموت في سوريا، وجاء جميع مرتزقة العراق إلى سوريا. إنها حرب الحركة، حرب الحرية، التي ستطيح بالطغيان وستمكننا من تحاشي أخطاء كانت ستقضي على الثورة، لولا أن قرر الشعب إنقاذها بالغالي من دمائه، وبروح الفداء والبطولة التي تعصف اليوم بالنظام، وبمن يساندونه من مرتزقة وغزاة!
الشرق الأوسط