السردية الوطنية كسيرة ذاتية/ رستم محمود
لو أُتيح لأحدنا قراءة المذكرات الشخصية للرئيس المصري الراحل أنور السادات “البحث عن الذات”، المذكرات -السيرة التي حاولت رصد حياة السادات والحقل العام- السياسي المصري منذ أربعينات وحتى نهاية سبعينات القرن المنصرم، انطلاقاً من وجهة نظر ووعي وشهادة السادات نفسه لتلك الفترة، ثم لو تتاح أيضاً متابعة العمل الثقافي التأسيسي، فيلم “أيام السادات” الذي أُنتج بعد ربع قرن من كتابة تلك المذكرات، وجزء منه مأخوذ عن تلك السيرة، ثم مذكرات زوجته جيهان السادات “سيدة من مصر”، سيصدم بحجم التطابق بين السرديتين الشخصيتين الذاتيتين، وذلك العمل “الإبداعي” الثقافي التأسيسي للذاكرة الوطنية عن تاريخ البلاد. تطابق في الأحداث وأسبابها، تبني لنفس المواقف وتحليلها وتبريرها، سرد لذات المشاعر وعوالمها، بناء لسياق واحد للأفكار ونجاعتها، تشكيل للدوافع والأفعال والواجبات نفسها… الخ.
في المصحلة، لم يضف ذلك العمل المعرفي- الثقافي- النقدي شيئاً يذكر لتلك السردية الوطنية، بل ظلت ملتزمة ومتبنية لما سطره السادات عن ذاته وعن البلاد. فلم تحلل أي من الأحداث التي جرت طوال تلك العقود بغير ما وصفها السادات، ولم تتضمن أية قراءة أخرى حول إحدى الشخصيات الإشكالية التي تحدث السادات عنها، لم تنتقد أي من سلوكيات وقرارات وسياسيات السادات، لم تفكر ولم تضف أي من المساحات والأحداث التي لم يعرضها في سيرته، ولم تسمح لغيره بأن يقول رؤيته بنفس الأحداث، ثمة تطابق وتبني من قبل المنتج المعرفي- الثقافي للرؤية الشخصية الذاتية وواحديتها، وفقط كذلك.
يكاد يكون ذلك المنطق تأسيسياً ومطلقاً في شكل تكوين سردياتنا ووعينا عن ذواتنا الجمعية. فدائماً ثمة شخوص أو مؤسسات أو منتجات عابرة للمعرفة والفن والنقد، تقوم بقوة وسلطة موقعها وحضورها، ببناء رؤية ذاتية عن الأحداث والمجريات والشخصيات العامة، تكون عادة من الشخصيات أو المؤسسات أو الأفعال المكونة للذاكرة الجمعية، تجبر العموم على التطابق والتماهي وتبني تلك السردية، مؤسسات إعلامية وفنية وتربوية وقضائية وحزبية ومعرفية، مؤسسات لا تنشغل البتة بمهمتها وواجبها بعدم التسليم بأية ذاتية أو واحدية في فهمها وبنائها للسرديات الوطنية، التي يجب أن تكون سرديات مجتمعية مبعثرة لا “دولتية” مركزية، أي متخالفة ومتباينة ومتنوعة ومركبة ومتغيرة، مثلها مثل المجتمع، خاضعة لسلطة اختلاف الأجيال والطبقات ومستويات المعرفة وقراءة الجماعات الأصغر تشكيلاً وسلطة وحضوراً في المجتمع، خاضعة لنوعية الوعي العام وتحولاته، شيء قابل للدحض والنفي والتكذيب والتشكيك والنقد والرفض، شيء دون قداسة الواحدية.
فتاريخ سوريا المعاصر مثلاً، كان تراكماً لتلك السرديات الواحدية- الذاتية- السلطوية، فسيرة وشخصية سوريا الإستعمارية، كانت فقط السردية النضالوية التي سطرها رجال الاستقلال فيما بعد، فمثلاً هل لأحدنا أن يقول أن “ثورة صالح العلي” كانت مجرد صراع محلي وقطاع طرق مع أبناء الطائفة الإسماعيلة، وأن “ثورة الجزيرة” كانت مجرد صراع عشائر!! وشخصية سوريا الخمسينات “الديموقراطية” في ذاكرة الاجيال التي تلت، كانت فقط حكاية بعض العائلة البرجوازية المستولية على الحقلين العامين المادي والرمزي، وفقط كذلك. سوريا الوحدة، فقط هي سوريا “المناضلين” القوميين وخرافاتهم. أما سوريا عقود البعث الطويلة، هي صورة سوريا التي سردها الأسدين، “الخالد” و”القائد”. وسيرة سوريا في أحداثها الراهنة، ستكون فقط حكاية المنتصر بها. كما كانت لقرابة قرن من الزمن، صورة واحدة وحيدة لهوية البلاد وتشكلها وظروفها و”رجالاتها” وسيميائها وخيارتها ومعناها. لا كسر لها ولا تباين معها في أي مساحة معرفية أو فنية أو مؤسساتية.
الفظاعة المتأتية من مثل هذا التكون الواحدي للسردية الوطنية، هي في إحتكار جماعة أو شخص واحد لسلطة وقيمة الرأسمال الرمزي المتأتي من تحديد معنى وهوية “الوطنية”، وهو رأسمال وسلطة غير قليلة، وذات فاعلية بالغة، يمكن استخدامها بنشاط ضد الآخرين المتباينين سياسياً أو مجتمعياً أو أهلياً مع هذه الجماعة المحتكرة لهذا السلطة.
وفوق كل شيء، هي ممارسة منافية لقيم وهوية وأدوات المعرفة أولاً.
لو أُتيحت لأحدنا قراءة المذكرات الشخصية للرئيس المصري الراحل أنور السادات “البحث عن الذات”، المذكرات -السيرة التي حاولت رصد حياة السادات والحقل العام- السياسي المصري منذ أربعينات وحتى نهاية سبعينات القرن المنصرم، انطلاقاً من وجهة نظر ووعي وشهادة السادات نفسه لتلك الفترة، ثم لو تتاح أيضاً متابعة العمل الثقافي التأسيسي، فيلم “أيام السادات” الذي أُنتج بعد ربع قرن من كتابة تلك المذكرات، وجزء منه مأخوذ عن تلك السيرة، ثم مذكرات زوجته جيهان السادات “سيدة من مصر”، سيصدم بحجم التطابق بين السرديتين الشخصيتين الذاتيتين، وذلك العمل “الإبداعي” الثقافي التأسيسي للذاكرة الوطنية عن تاريخ البلاد. تطابق في الأحداث وأسبابها، تبني لنفس المواقف وتحليلها وتبريرها، سرد لذات المشاعر وعوالمها، بناء لسياق واحد للأفكار ونجاعتها، تشكيل للدوافع والأفعال والواجبات نفسها… الخ.
في المصحلة، لم يضف ذلك العمل المعرفي- الثقافي- النقدي شيئاً يذكر لتلك السردية الوطنية، بل ظلت ملتزمة ومتبنية لما سطره السادات عن ذاته وعن البلاد. فلم تحلل أي من الأحداث التي جرت طوال تلك العقود بغير ما وصفها السادات، ولم تتضمن أية قراءة أخرى حول إحدى الشخصيات الإشكالية التي تحدث السادات عنها، لم تنتقد أي من سلوكيات وقرارات وسياسيات السادات، لم تفكر ولم تضف أي من المساحات والأحداث التي لم يعرضها في سيرته، ولم تسمح لغيره بأن يقول رؤيته بنفس الأحداث، ثمة تطابق وتبني من قبل المنتج المعرفي- الثقافي للرؤية الشخصية الذاتية وواحديتها، وفقط كذلك.
يكاد أن يكون ذلك المنطق تأسيسياً ومطلقاً في شكل تكوين سردياتنا ووعينا عن ذواتنا الجمعية. فدائماً ثمة شخوص أو مؤسسات أو منتجات عابرة للمعرفة والفن والنقد، تقوم بقوة وسلطة موقعها وحضورها، ببناء رؤية ذاتية عن الأحداث والمجريات والشخصيات العامة، تكون عادة من الشخصيات أو المؤسسات أو الأفعال المكونة للذاكرة الجمعية، تجبر العموم على التطابق والتماهي وتبني تلك السردية، مؤسسات إعلامية وفنية وتربوية وقضائية وحزبية ومعرفية، مؤسسات لا تنشغل البتة بمهمتها وواجبها بعدم التسليم بأية ذاتية أو واحدية في فهمها وبنائها للسرديات الوطنية، التي يجب أن تكون سرديات مجتمعية مبعثرة لا “دولاتية” مركزية، أي متخالفة ومتباينة ومتنوعة ومركبة ومتغيرة، مثلها مثل المجتمع، خاضعة لسلطة اختلاف الأجيال والطبقات ومستويات المعرفة وقراءة الجماعات الأصغر تشكيلاً وسلطة وحضوراً في المجتمع، خاضعة لنوعية الوعي العام وتحولاته، شيء قابل للدحض والنفي والتكذيب والتشكيك والنقد والرفض، شيء دون قداسة الواحدية.
فتاريخ سوريا المعاصر مثلاً، كان تراكماً لتلك السرديات الواحدية- الذاتية- السلطوية، فسيرة وشخصية سوريا الإستعمارية، كانت فقط السردية النضالوية التي سطرها رجال الاستقلال فيما بعد، فمثلاً هل لأحدنا أن يقول أن “ثورة صالح العلي” كانت مجرد صراع محلي وقطاع طرق مع أبناء الطائفة الإسماعيلة، وأن “ثورة الجزيرة” كانت مجرد صراع عشائر!! وشخصية سوريا الخمسينات “الديمقراطية” في ذاكرة الاجيال التي تلت، كانت فقط حكاية بعض العائلة البرجوازية المستولية على الحقلين العامين المادي والرمزي، وفقط كذلك. سوريا الوحدة، فقط هي سوريا “المناضلين” القوميين وخرافاتهم. أما سوريا عقود البعث الطويلة، هي صورة سوريا التي سردها الأسدين، “الخالد” و”القائد”. وسيرة سوريا في أحداثها الراهنة، ستكون فقط حكاية المنتصر بها. كما كانت لقرابة قرن من الزمن، صورة واحدة وحيدة لهوية البلاد وتشكلها وظروفها و”رجالاتها” وسيميائها وخيارتها ومعناها. لا كسر لها ولا تباين معها في أي مساحة معرفية أو فنية أو مؤسساتية.
الفظاعة المتأتية من مثل هذا التكون الواحدي للسردية الوطنية، هي في إحتكار جماعة أو شخص واحد لسلطة وقيمة الرأسمال الرمزي المتأتي من تحديد معنى وهوية “الوطنية”، وهو رأسمال وسلطة غير قليلة، وذات فاعلية بالغة، يمكن استخدامها بنشاط ضد الآخرين المتباينين سياسياً أو مجتمعياً أو أهلياً مع هذه الجماعة المحتكرة لهذا السلطة.
وفوق كل شيء، هي ممارسة منافية لقيم وهوية وأدوات المعرفة أولاً.
المدن