بشير البكرصفحات سورية

السعودية..الغموض غير البنَاء/ بشير البكر

 الإمكانات التي تتوفر عليها المملكة العربية السعودية قادرة على أن تجعل منها دولة إقليمية كبرى في الاقتصاد والتنمية وفي السياسة كما في الأمن الإقليمي… ولكن هذا لم يحدث وهذه بعض الأسباب…

تعرف إيران، الجارة، جيدا ما تفعله. وهذا منذ الثورة الاسلامية سنة 1978. سياسة مرسومة واستراتيجيات واضحة تدعمها تكتيكات لا تخطئها العين، يتفق فيها المحافظون بمن فيهم الغلاة ومن يوصفون بالإصلاحيين أيضا. وبقدر ما تعرف إيران ما تريده بقدر ما تبدو العربية السعودية تجهل ما الذي تريده. عقود كثيرة منذ نشأتها ولا شيء يمكن فهمه. يَحارُ المراقب فعلا في تفسير هذا الغموض الكبير.

صحيح أن السعودية تثير حسد وأطماع الكثيرين. بلد مكة والمدينة الذي تَهْوِي إليه أفئدة مليار ونصف مليار من المسلمين، ولكنه أيضا البلد المتربع على أكبر ثروة نفطية في العالم. ولكن القيادة السعودية هرمة ومترهلة ومتعبة ومستبدة. وهذا ما جعل أجيالا كثيرة من السعوديين بعيدة عن ممارسة السلطة، كما نفى نصف المجتمع السعودي، أي النساء، خارج الدينامية الفكرية والإبداعية والاقتصادية.

كيف يمكن أن يفهم المراقب سياسة المملكة العربية السعودية؟ بل وهل تمتلك هذه الرياض سياسة ما؟ على الصعيدين الخارجي والداخلي؟ من موقفها من “الربيع العربي” واستقبال الدكتاتوريين، مثل عيدي أمين داده وزين العابدين بن علي، وحتى استعدادها استقبال الطاغية حسني مبارك. من حرب اليمن إلى التخلي عن صدام حسين إلى دورها في محنة الجزائر وإلى محاولات تصدرها قيادة مجلس التعاون الخليحي.

لا شك أن مجلس التعاون الخليجي من التجارب الوحدوية العربية المثيرة للإعجاب في ظل انهيارات أو جمود تجمعات إقليمية عربية أخرى، كمجلس التعاون العربي أو المغرب العربي. ولكن بدل أن يسير هذا المجلس نحو اتحاد يشبه الاتحاد الأوروبي، فإنه تتخلله شروخ قد يدخل منها شيطان الفرقة ويُجهِز عليه.

إن هذا ما يقودنا إلى موقف السعودية من الشقيقات الصغيرات في مجلس التعاون… ما قصة الرغبة السعودية الجارفة المفاجئة في إنجاز الاتحاد الخليجي؟! يرى المراقبون في السياسة السعودية ارتجالا وإملاءًا للمواقف والقرارات غير جدير بدولة جارة وشقيقة… وإذا كان الإعلام السعودي ومن يسير في فلكه ينتقد من حين لآخَر الدول الخليجية التي تنتفض أحيانا ضد مواقف السعودية، فهذا لا يُخفي أن مواقف الحكومة السعودية تتحمل المسؤولية الأكبر في أي جمود وفي أي فشل… إذ لا يمكن للقرارات أن تأتي من دون تفكير عميق ومن دون مشاورات أخوية مستفيضة وطويلة بين الدول الأعضاء… الاتحاد الحقيقي ليس بالأمر الهين وثمة مخاوف حقيقية من ابتلاع السعودية لغيرها من الدول، وهذا ما لا تخفيه تصريحات مُريبة من بعض الساسة السعوديين…ثم أن الحديث عن وحدة نقدية هو أيضا مسألة صعبة سابقة لأوانها فالأوروبيون لِحدّ الساعة لا يزالون يدفعون، اقتصاديا، ثمن العملة الموحدة. كما أن امر السياسة الدفاعية من خلال تقوية “درع الجزيرة” يثير القلق المشروع من الدول الأعضاء حول طبيعته ودوره وقيادته إلخ… ماذا لو أن الخليجيين وجدوا أنفسهم في  خضم مغامرة عسكرية تنخرط فيها السعودية؟!

وللحقيقة فإن الدول الأعضاء لم تدّخر جهدا في إرضاء الأخ السعودي الأكبر. ولكن الشيء الذي يتمتع بصبغة الأولوية، قبل الحديث عن الاتحاد، هو حلّ المشاكل العالقة بين الدول الأعضاء، بما فيها قضايا الحدود، ولعلّ السعودية هي من عليها أن تبذل جهدا في هذا الصدد حتى تبدد مخاوف شقيقاتها. وقبل هذا يجب رسم خريطة طريق سياسية واضحة، تكون لها أهداف محددة.

وهنا يجب التأكيد أن الموقف العماني الجديد والصريح الذي ألقى بظله على القمة الخليجية الأخيرة، لا يجب أن يخفي وجود تصدعات في العلاقة بين السعودية وكافة شقيقاتها، فالأمر ليس بأحسن حالا مع بقية دول الخليج.

المشكلة تَكْمُنُ في أن العربية السعودية لا تعرف ماذا تريد، في حين أن الدول الأخرى الشقيقة تعرف ماذا تريد. وبدل التركيز على لوم الموقف العماني، هذه المرة، يجب على الساسة السعوديين لوم أنفسهم، لأنهم بإمعانهم في أخطائهم وكبريائهم يفقدون جيرانا وحلفاء أوفياء..

هذا الموقف السعودي الضبابي، الذي ارتدّ سلبا على البلد، ليس حكرا على مجلس التعاون الخليجي. فالموقف من عراق صدام حسين يعتبر من الأخطاء السعودية الكبرى التي لا تزال آثارها فاعلة ومؤثرة… إذ ساهمت السعودية وغيرها من الدول العربية، وعلى رأسها مصر، في تسليم العراق على طبق من ذهب إلى الأمريكان والإيرانيين (كان حينها صدام يسترجع القولة الشهيرة: أُكِلْتُ يوم أُكِل الثور الأبيض!)… وها هي السعودية تدفع الثمن… إذ لا يبدو أن السعودية تمتلك سياسة واضحة تجاه الحكم العراقي الجديد (نظام المالكي)… لا تطبيع ولا احتواء… علاقة باردة تسودها من حين لآخر تصريحات سعودية تلوم العراقيين على ولائهم لإيران ودعمهم لسوريا، من دون التفكير في خلق نفوذ حقيقي في العراق وتشجيع المُكوِّن السُنّي على توحيد تشعباته وأشلائه لتحقيق توازنات سياسية تمنح للعراق استقرارا يستفيد منه، حتما، كلُّ الجوار وتُعيدُه لمحيطه العربي الطبيعي.

كما أن الموقف من القضية الفلسطينية ومن حركة “حماس” غريبٌ ولا يمكن تفهمه من قبل قطاع عريض من العرب والمسلمين. فدعم السعودية لحركة فتح وللرئيس محمود عباس على حساب الفصائل الفلسطينية الفاعلة الأخرى دفع القيادات الحمساوية نحو إيران وحزب الله. ويبدو أن السعودية ترى تنظيم الإخوان المسلمين في كل مكان. ولا تفسير لهذا الصدّ والجفاء لقيادات “حماس” إلا بسبب علاقتها الجيدة مع تنظيم الإخوان المسلمين وكونها خرجت، يوما، من رَحِمه. ولا يزعج القادة السياسيين السعوديين، قط، أن يكون موقفهم من “حماس” متناغما مع الموقف الأمريكي والإسرائيلي.

وهذا الموقف الغريب يقربنا من موقف السعودية من الربيع العربي ومن سوريا. إذ كان ولا يزال ضبابيا. وإن كان هو للرفض أقرب. وإلاّ كيف يمكن تفسير استقبال السعودية للجنرال والدكتاتور زين العابدين بن علي وزوجته بعد طردهما من تونس، ثم اعتذارها عن استقبال راشد الغنوشي. كما أنها لا تنظر بعين الرضى، أبدا، إلى محاكمة الطاغية حسني مبارك في مصر. بل إن موقفها من مصر بعيد عن المنطق، أو ثمة تفسيرات سرية لا تبدو واضحة للمراقب. من المؤكد أن السعودية كانت ضد عزل مبارك. كانت تريده رئيسا مدى الحياة. ولكن الثورة نجحت فقامت بمجاراتها ثم حِصارها حين وصل الإخوان المسلمون إلى السلطة، ثم أبدت، علانية، تشجيعها للانقلاب العسكري على رئيس ديمقراطي وشرعي ووصفت مناصريه بالإرهابيين.

من الممكن أن يتفهم المراقب حذر وتوجس السعودية من تنظيم سياسي ديني دولي كالإخوان المسلمين، له أتباع حتى داخل العربية السعودية، ولكن ما يدفع للاستغراب هو مجاراة مناخ عام في مصر لا يخفي ولاءه للناصرية، التي عادتها السعودية واشتبكت معها طويلا. وحين تُعبّر شخصيات محسوبة على الناصريين عن شكرها للسعودية واستعدادها لزيارتها، فهذا يدل على أن المملكة السعودية مستعدة أن تتحالف حتى مع الشيطان للدفاع عن مواقفها. ومما يزيد الموقف السعودي غموضا هو تحالفها مع العسكر الذين لا ينظرون بعين الرضى إلى الثورة السورية.

وهنا نصل إلى الموقف السعودي من الثورة السورية. لقد كان في البداية مترددا، وفجأة أراد أن يكون هو المهيمن، حتى وإن اقتضى الأمر إقصاء كل الفاعلين الآخرين. ولكن ما الذي أنجزته المملكة العربية السعودية في الشأن السوري، حقا؟ صحيح أنها فرضت رئيسا للإئتلاف ولكنها على الأرض لم تفعل الكثير، وحتى المحسوبون على نفوذها، من “جيش الإسلام”، لم يحققوا انجازات على الأرض. لا زالوا ينتظرون. الوضع على الأرض لا تغيره التصريحات النارية ضد النظام السوري، حتى وإن كانت جيدة. والتغيير على الأرض لا يصنعه التخلي عن عضوية مجلس الأمن، ولا التهرب من إلقاء خطاب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. التغيير يتم عبر دعم الثورة السورية، بصدق وبحقّ، من أجل إنجاز الثورة لأجنداتها ومشاريعها وبرامجها.

لو أن الطبقة السياسة الحاكمة في المملكة العربية السعودية تقوم باستخلاص الدروس والعِبَر من عقود طويلة من الحكم، لاكتشفت أنها فقدت رأسمال التعاطف الذي كان تحظى به من قِبل العرب والمسلمين ( منظمة المؤتمر الاسلامي). ولوجدت أن السبب هو عدم صرف الثروة المالية الهائلة التي تتمتع بها في المجالات التي تمنح للبلد سمعة وقوة ونفوذا جديرا به. ولانجزت عملية اصلاح داخلي، من خلال إفساح المجال للنُّخَب الشابة كي تتولى السلطة والمسؤولية، وفي السماح لنصف المجتمع، أي النساء، بمزاولة حقوقهن كاملة في التعليم والتنمية وليس فقط في قيادة السيارات.

مرة اقترب صحافيّ غربي من فنانة تشكيلية سعودية، مقربة من السلطة، تعرض لوحاتها في بلد غربي، فسألها، ببراءة، عن وضعية المرأة في المملكة العربية السعودية. فخجلت الفنانة الحرة والمتحررة أن تعترف أن المرأة في بلدها غائبة!

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى