السعودية: هيهات أن تضع الحرب أوزارها بين “الليبرالي” و”المطوّع”/ صبحي حديدي
طاسات ساخنة (كثيرة ومتعاقبة ودراماتيكية)، وأخرى باردة (أقلّ عدداً، وليست أدنى إثارة)؛ هكذا هي حال الولاية الجديدة للملك السعودي سلمان بن عبد العزيز: إعادة تثبيت الركن السديري، وتصفية رجال الملك الراحل عبد الله، ونقل خطّ التوريث إلى الأحفاد على نحو غائم وقابل للتبدّل في أية لحظة؛ ثمّ، من جهة ثانية، إطلاق إشارات، لا تقلّ غموضاً، حول آفاق «الإصلاح» ومصائر الخطوات «الليبرالية» الخجولة التي طبعت بعض سياسات السلف في السنوات الأخيرة. وإذا كانت إقالة عبد الله التويجري، رئيس الديوان الملكي السابق وناصح عبد الله الأبرز حول السياسات الداخلية والإقليمية، طاسة ساخنة أولى منتظَرة، رغم السرعة القياسية في اتخاذها؛ فإنّ تسمية عادل زيد الطريفي وزيراً للإعلام والثقافة، طاسة باردة موازية، يُنتظر أن تكون مزيجاً من ذرّ الرماد في العيون «الليبرالية»، واختبار ردود أفعال المؤسسة الدينية الوهابية.
وذات يوم، غير بعيد، حين وقع هجوم «القاعدة» النوعي على مجمع الخبر، أواخر أيار (مايو) 2004؛ كان الطريفي كاتب عمود في صحيفة «الوطن»، وكانت الأجواء الأمنية والسياسية تتيح له أن يكتب التالي: «إننا اليوم واقعون أسرى لإرهاب تمّ توفير الأرض الخصبة لنموّه منذ عقود. وما يردده اليوم كثير من الشيوخ الرسميين والكتّاب ــ الذين لم يستيقظوا إلا حين وقعت الواقعة ــ ليس إلا وصفاً غير صادق للظاهرة، لا يتناول الأسباب والجذور الحقيقية للفكر التكفيري/الجهادي. إذ يكتفي هؤلاء باعتبار ما حدث فكراً وافداً، وينسى هؤلاء إنّ البذور كانت كامنة في ثقافتنا، ونتيجة لأخطاء كثيرة عبر الزمن يتحملها الكثيرون منّا في المجتمع» .
وأمّا رئيس التحرير، جمال خاشقجي، فقد مضى أبعد: «بيننا فكر ظلامي يرفض العصرنة والمساواة والتسامح والانفتاح على العالم من أجل حياة أفضل بروح إسلامية أصيلة، ومن يحملون هذا الفكر ليسوا مجرد شباب مغرّر بهم يحملون السلاح ويخرجون على الدولة، وإنما طابور واسع نما في غفلة من الزمن واستغلّ تسامح وليّ الأمر، تتدرج عندهم صور التكفير والعصيان ولكن يجمعهم هدف واحد ليس فيه خير لبلدنا. هؤلاء وفكرهم يجب أن يكونوا الهدف الأول بعد القضاء على هذه العصبة المارقة. نريد أن نعيش في مجتمع مسلم منسجم مع ذاته لا متصارع. وليكن ما حصل البارحة بداية النهاية لهذا التيار، وبعدها نتفاءل بربيع سعيد مقبل».
ردّ المؤسسة الدينية لم يتأخر، بل كان أقرب إلى الهجوم الاستباقي الشامل، الذي اتخذ صفة السابقة غير المألوفة، في مملكة مغلقة منغلقة لا يُخرق فيها المألوف إلا لماماً واستثناء: أن يخرج الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، فيفتي بعدم شرعية قراءة صحيفة «الوطن»، التي كان رئيس مجلس إدارتها هو الأمير بندر، نجل الأمير خالد بن فيصل بن عبد العزيز حاكم عسير. وفي الواقع كان الأمر خارقاً للعُرف، وللأعراف جمعاء ربما، لأنّ الصحيفة تُراقب بالفعل وبصفة يومية من وزارة الداخلية، وهي معروفة بالدفاع الشديد عن آراء الأمير عبد الله (وليّ العهد، يومذاك)، في «الإصلاح» و»التطوير» و»تحديث الدولة والمجتمع.» كبش الفداء كان خاشقجي نفسه، الذي لم يكن قد مضى على تعيينه سوى أسابيع معدودات. صحيح أنّ الرجل أعرب على الدوام، وقبل زمن طويل من توليه رئاسة تحرير «الوطن»، عن نزوعات «ليبرالية» جلية، إلى درجة أنّ خطابه في نقد التطرّف والأصولية والتيارات الجهادية وأنصار أسامة بن لادن كان يردّد صدى الخطاب الأمريكي اليميني التقليدي (وليس الليبرالي، للمفارقة!). إلا أنّ خاشقجي لم يكن ينطق عن هوى حين فتح النار، بعد تفجيرات الرياض مباشرة، على مؤسسات دينية منيعة حصينة، أقلّ ما يُقال فيها أنها كانت رديف السيف في تمكين عبد العزيز بن سعود من إقامة كيان المملكة. وهذا التنازع، بين صحافي وإمام مسجد، بوصفه أيضاً سابقة غير مألوفة في تاريخ العلاقة ما بين المؤسسة الدينية (لجنة الإفتاء، على سبيل المثال) والمؤسسات المدنية أو شبه المدنية (صحيفة «الوطن»، مثلاً)؛ لم يكن سوى المعطى الأحدث عهداً في سلسلة من الوقائع المتباينة المتفاوتة في أهميتها، والتي أعادت المملكة إلى مناخات «إصلاح» شبه محال، يجري التبشير به بين فينة وأخرى، دون أن يُترجم على أرض الواقع؛ مقترناً على الدوام بشدّ وجذب بين «الليبرالي» و»المطوّع»، إذا جاز رصف المعادلة هكذا، وبين من يظاهر هذا أو يساند ذاك في الهرم الأعلى من السلطة. إذ هل يعقل ألا يكون خاشقجي قد تلقى أضواء خضراء عليا، اختلطت في سريرته بذلك الحماس «الليبرالي»؛ وألا يكون الشيخ الجبرين ناطقاً بلسان ورغائب «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»؟
لاحظوا، أيضاً، التبعات الراهنة لقرار السلطات البحرينية إغلاق فضائية «العرب»، التي يملكها الملياردير السعودي الوليد بن طلال، ومديرها ليس سوى خاشقجي نفسه: صحيح أنّ قرار إيقاف البثّ صدر عن «هيئة شؤون الإعلام» في البحرين، لسبب حقيقي هو قيام الفضائية باستضافة المعارض البحريني خليل مرزوق، نائب أمين عام «جمعية الوفاق» البحرينية المعارضة؛ إلا أنّ الرضا الضمني لجهات عليا نافذة في السلطة السعودية ذاتها، هو الذي سهّل إصدار ذلك القرار، أو بالأحرى أذن به حرفياً. ليس هذا فحسب، إذْ أنّ الشيخ عادل الكلباني، إمام وخطيب مسجد المحيسين بالرياض، علّق على القرار هكذا: «إيقاف قناة العرب.. جزاءً وفاقاً»؛ في غمز من قناة خاشقجي، الذي كان قد هلل لقرار وزير الإعلام السعودي الأسبق، الدكتور عبدالعزيز خوجة، إغلاق قناة «وصال» الأصولية.
وبذلك فإنّ المراقب للشأن السعودي مُلزم بالعودة إلى مربع أوّل لم تبدّل الحياة سطوة قوانينه: أربعة عقود من التصارع بين السلطة القبلية وسلطة الفتوى والسلطة المركزية كانت قد أقنعت ابن سعود باستحالة إغفال أيّ منها لصالح أخرى، فأوصى أبناءه بإدامة التوازن الدقيق، وبذل آخر ما تبقى في جعبته من حنكة سياسية في ضمان خطّ تعاقبي آمن في وراثة العرش. ولكن تحوّل المملكة إلى منتج أساسي للنفط في عهد الملك سعود، وتجاوز سقف المليون برميل يومياً، أسند للعائدات النفطية وظيفة سوسيولوجية جديدة وخطيرة هي تدمير هياكل التوازن التي شيّدها إبن سعود، خصوصاً ذلك التشارك القلق بين القِيَم القبلية وأصول الدين ونظام الإدارة. والخبرة التي راكمتها الأسرة الحاكمة في تدبير الشأن القبلي لم تستطع تقديم إجابات مناسبة على أسئلة وتحديات العمران والتحديث، وتوزيع عائدات النفط، والظواهر السياسية الإقليمية والدولية، وخاصة صعود الإسلام السياسي المتشدد والجهادي.
والأرجح، مجدداً، أنّ معركة ابن سعود لم تنتهِ حتى يومنا، رغم بسط السلطة المركزية؛ خاصة وأنّ «أصول الدين»، أو تطبيق أركان العقيدة الوهابية، اتخذ شكل مؤسسة عقائدية مستقلة جبارة، تتبادل التأثير والتأثر والشدّ والجذب مع بيروقراطية الدولة وشروط العصر وعواصف التحديث. وهكذا فإنّ صيغة التعاقد بين المؤسسة السياسية والمؤسسة الدينية فرضت على النظام اعتماد مزيج من سياسات القوة بما تتضمنه من إضعاف للامتيازات القبلية، ودعم للأسس الإدارية وللبيروقراطية الضرورية الوليدة، وإتمام للزواج الناجح بينها وبين شركات النفط العملاقة، واستيراد التكنولوجيا، والمضيّ قدماً في التحالفات الإقليمية والدولية، وتطبيق استراتيجية أمنية انعزالية وجامدة ووقائية… في آن معاً.
هذا، كله، مزيج انفجاريّ التكوين، وهيهات أن يتيح للحرب المفتوحة بين «الليبرالي» و»المطوّع» أن تضع أوزارها؛ في أيّ مدى منظور.
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي