صفحات سوريةمحمد ديبو

السلاح: انتصار الثورة أم مقتلها؟


محمد ديبو

منذ دخول الانتفاضة السوريّة نفقَ التسلّح، هيمن اتجاهان في التفكير والفعل الثوريّ على أوساط المناصرين للثورة والمنخرطين في نشاطاتها كافة: بين مَنْ يرى أنّ السلاح هو وحده الكفيل بإسقاط نظام وصل حدّ العسف المطلق؛ وبين مَنْ يرى أنّ السلميّة هي وحدها القادرة على تفكيكه، مع إبقاء خيار استخدام السلاح في حالات الدفاع المباشر عن النفس أو لحماية التظاهرات فقط.

جوهر النقاشات التي تصبّ على تأكيد شرعيّة التسلّح يستمدّ مشروعيّته من بطش النظام في مواجهة شعبه، عبر القول إنّ هذا البطش هو ما أجبر الثورةَ على التسلح. وهذا يعني أنّ مشروعيّة السلاح تأتي هنا بدلالة الخصم، لا عبر طرح أسئلة جوهريّة تتعلّق بمدى قدرة هذا السلاح على تحقيق الهدف الذي امتُشق لأجله، وتكاليفه، والنتائج المترتّبة عليه.

يستند أصحابُ التسلّح في تبرير منهجهم الكفاحيّ هذا إلى أنّ الثورات كانت دائمًا مسلّحة، ويسْخر أحدُهم من يساريّي اليوم الذين يرفعون صورَ غيفارا في بيوتهم بينما هم يقفون ضدّ التسلّح.(1) غير أنّ هذا الرأي يُسقط من حسابه اختلافَ الظروف بين الأمس واليوم، وأنّ خيارًا كهذا يحتاج حاضنًا اجتماعيًّا على مستوى الوطن، إضافةً إلى حاضن عالميّ.

كلنا ندرك أنّ التعبئة العامّة في بداية الثورة كانت للاتجاه السلميّ ــ وهو أمر أثمر إيجابًا لدى الجمهور السوريّ الذي احتضن الثوّار السلميين في البداية. إلى أن بدأ التسلّحُ في الظهور، فلم تَقْدر القطاعاتُ الشعبية وأوساطُ الرأي العامّ أن تفهم هذا التحوّل. هنا خسرت الثورةُ الكثيرَ من حواضنها، وفقدتْ قطاعاتٍ أخرى كان يمكن أن تنضمّ إليها خصوصًا في أوساط الطبقات الوسطى.

أما على صعيد المناخ الدوليّ العالميّ، فقد باتت السمة التي تطبعه هي اللاعنفَ ورفضَ الحروب واستخدامِ السلاح. فمنذ ربيع پراغ وانهيار الاتحاد السوڤياتيّ وسطوع الثورات الملوّنة، تراجع وهجُ الثورات المسلّحة التي تعتمد أسلوبَ العصابات لصالح الثورات السلميّة التي تعتمد التظاهراتِ والعصيانَ المدنيّ وكلَّ أنواع النشاطات السلميّة. وتُوّج هذا الأمرُ برعاية الأمم المتحدة لثقافة اللاعنف، من خلال إعلان العقْد الممتد بين سنتيْ 2001 و2010 عقدًا لتشجيع «ثقافة السلام واللاعنف ولصالح أطفال العالم.» وهذا يعني وجودَ مناخ عالميّ مختلف تمامًا عن مناخات الخمسينيّات والستينيّات من القرن الماضي، وهي مناخات كانت تحتفي بالثورات المسلّحة المدعومة من القطب السوڤياتيّ.

إذن، كما نقول إنّ خيار السلطة الأمنيّ في استعادة مناخ الثمانينيّات فاشلٌ جدًّا بسبب اختلاف الظروف وتغيّر المحيط الدوليّ والإقليميّ، فإننا نقول أيضًا إنّ خيار تسليح الثورة فاشلٌ بسبب تغيّر الظروف نفسها. فالسلطة بحلها الأمنيّ تعالج مشاكلَ اليوم بحلول الأمس؛ وأصحابُ خيار التسلّح يعالجون مشاكلَ الوطن بحلول سابقة قد تنجح في إسقاط النظام لكنّ نتائجَها الأخرى كارثيّة على المجتمع وعلى بناء الدولة الديمقراطيّة التي ينشدها السوريون الأحرار.

يردّد البعض معلومةً، لا يمكن التحققُ من صحّتها عن أحداث الثمانينيّات، تقول إنّ قائد سرايا الدفاع رفعت الأسد كان يعرف أنّ الإخوان المسلمين يتسلّحون، وترك لهم البابَ مواربًا لتحقيق ذلك، كي يتمكّن فيما بعد من إيجاد مبرّر أمام الجمهور السوريّ للبطش بهم، جارفًا في طريقه كلَّ التيّارات المعارضة بذريعة «مكافحة الإرهاب.» الأمر نفسه يتكرّر اليوم، إذ لا يساورنا أدنى شكّ في أنّ السلطة غضّت النظر على التسلّح وشجّعتْه، وصعّدتْ عنفهَا بغية دفع الناس إليه، إلى الأرض الوحيدة التي تجيد اللعبَ فوقها.

بعيدًا عن كل ما سبق، سنعرض الآن الوقائعَ التي أفرزها التسلّحُ على الأرض السوريّة. وسنناقشها في ضوء الهدف الذي يَنْشده السوريون. وهذا النقد، بالمناسبة، لا يطول الجنودَ الشجعان الذين انشقّوا تعبيرًا عن رفضهم إطلاقَ النار على المدنيين، وإن اختلفنا معهم في الرؤية الى تحقيق الهدف المشترك للسوريين في بناء الدولة الوطنيّة: فنحن نرى أنّ انتقال الثورة من الخيار السلميّ إلى الخيار المسلّح فتح البابَ لجميع القوى والدول وأجهزة الاستخبارات للعمل على الأرض السوريّة لتحقيق أجندات مضادّة لأهداف السوريين. وهذه الأجندات متداخلة ومتناقضة في أهدافها، إلى درجة أنها تجعل مصير الكيان السوريّ محفوفًا بمخاطر جمّة:

● فثمة أهداف متناقضة لأنصار التسلّح على الأرض. إذ بينما يشكّل «الجيش السوريّ الحرّ» كتائبه الخاصة لإسقاط النظام، يعمل الإخوان المسلمون السوريون على تشكيل ألويةٍ خاصةٍ بهم. وهو أمر كشفه رئيسُ المجلس العسكريّ العميد الركن مصطفى الشيخ (قبل أن يعود ويتراجع عنه)، حين قال: «إنْ كانوا فعلاً ملتزمين بالدولة المدنيّة والعمل تحت مظلّة الجيش الحرّ، فكيف يفسّرون عمل ‘هيئة حماية المدنيين’ وهي ذراعهم العسكريّة في الداخل، يجمعون لها التبرّعات، ويزوّدونها بالإمدادات، على حساب الجيش الحرّ…؟»(2) وكتب يزيد صايغ أنّ «عسكرة جماعة الإخوان المسلمين هذه تجعل علاقتها مع شركائها غير المسلّحين في المجلس الوطنيّ السوريّ، ومع بقية أطياف المعارضة، موضعَ شكّ. أولاً، لأنّ جماعة الإخوان تتصرّف من طرف واحد، ما يبدو أنه يؤكّد مزاعمَ المنشقّين عن المجلس الوطنيّ السوريّ…. و يمثّل تشكيلُ ألويةٍ مستقلّةٍ تابعةٍ لجماعة الإخوان عقبةً إضافيّةً في طريق بناء الجيش السوريّ الحرّ كجناح عسكريّ موحّدٍ للمعارضة.»(3)

هنا يتّضح أنّ الإخوان المسلمين باتوا يستغلّون الجيشَ الحرّ وخيار التسلّح غطاءً لتحقيق أجندةٍ خاصةٍ بهم، غيرِ بعيدةٍ عن داعميهم الأساسيين في قطر والسعوديّة، حيث الهدف سيطرةُ هؤلاء على الأرض عسكريًّا، بغية قطف النتاج السياسيّ لاحقًا. وهذا ما يحصل الآن في ليبيا:

فقد دُعم عبد الحكيم بلحاج، المقاتلُ في صفوف «القاعدة» إلى جانب بن لادن، وأحدُ مؤسّسي «الجماعة الإسلاميّة الليبيّة» في بداية التسعينيّات، قبل أن يصبح أميرًا للجماعة الليبيّة المقاتلة، ليُعتقل بعدها في بانكوك بأمر من المخابرات الأمريكيّة، ويسلّمَ إلى القذافي، فيبقى سبعَ سنوات في السجن، ليخرجَ منه بوساطة علي الصلابي (أحد قادة الإخوان في ليبيا) والشيخ يوسف القرضاوي (وهو ما يفسّر سرّ الدعم القطريّ لبلحاج). بلحاج، هذا، ظهر فجأةً وهو يقود معركةَ تحرير طرابلس، وتُظهره قناةُ الجزيرة بطلاً ليبيًّا، وقد استقال من رئاسة المجلس العسكريّ في طرابلس كي يترشّح للانتخابات القادمة في ليبيا. وهو سيفوز، لأنه يمتلك المال، ويمتلك الإعلامَ الذي سيقدّمه رمزًا من رموز الثورة، على حساب مكوّناتٍ أخرى علمانيّة سيجري تهميشُها في ليبيا.

المثال السابق يعطينا صورةً دقيقةً عن كيفيّة عمل تلك الجماعات، والأهدافِ التي ترمي إليها، أي الوصول إلى السلطة عن طريق اغتصاب الثورة! هكذا يتمّ العملُ المنهجيّ على تدمير الوعي المدنيّ، وجرِّ الناس إلى السلاح والاحتقان الأهليّ. كما يتم العمل على تشويه سيرة المناضلين الوطنيين، كهيثم منّاع وعبد العزيز الخيّر وفاتح جاموس، بغية إظهارهم بمظهر الخونة لدماء الشعب السوريّ، كي تظهر تلك الجماعاتُ وكأنها ملائكة على الأرض!

● شكّل الاتجاهُ نحو التسلح غطاءً للجماعات التكفيريّة، من «القاعدة» إلى أحزاب إسلاميّة بات بعضُها يظهر في التظاهرات بوضوح (حزب التحرير الإسلاميّ نموذجًا). هنا يتجادل البعض بين أن تكون تلك الجهاتُ مدعومةً من الغرب، أو من النظام السوريّ الذي يريد تشويهَ سمعة الثورة السوريّة، لكنها في كلّ الأحوال باتت موجودةً على الأرض السوريّة، ولها أجندتها الخاصة. وكلنا ندرك قدرةَ هذه الجماعات على الانقلاب على داعميها، لتبدأ وضعَ أجندتها موضعَ التطبيق. ويبقى أن نسأل أنصار التسلّح: هل لديكم خطّة متقنة للجم هؤلاء في حال سقوط النظام؟ وكيف يمكن التعاملُ معهم، خصوصًا أنّ أجندتهم واضحة في معاداة أهداف الثورة السوريّة في الحريّة والديمقراطيّة؟

● هناك أيضًا الوضع الكرديّ في سوريا. فالمعلومات المؤكّدة حتى الآن تشير إلى أنّ أغلب الجنود الكرد الذين انشقّوا عن الجيش السوريّ أصبحوا في أربيل، وهم يتدرّبون ليكونوا «بشمركة» سوريّة قادرةً على حماية المناطق الكرديّة في سوريا في حال سقوط النظام. ويقول القياديّ في «تيّار المستقبل الكرديّ» في سوريا، غربي حسو، إنّ عدد السوريين الكرد «الذين دخلوا إقليم كردستان قد وصل إلى 4500 شخص…»(4) وثمّة معلومات تفيد بأنّ أغلب هؤلاء قد يتدرّبون على السلاح في أربيل، فما دور هؤلاء لاحقًا؟

وضمن هذا السياق يشير الكاتب والناشط السياسيّ المقيم في القامشلي سليمان يوسف إلى أنّ نشرة «كلنا شركاء» الإلكترونيّة نشرتْ حوارًا مع قائد الجيش الخاصّ لما يسمّى بـ «كردستان سورية» يقول فيه: «نحن الكرد، كقوميّة، لنا الحقّ بأن يكون لنا جيش يحمي إقليمَ غرب كردستان. وهدف الجيش الدفاع عن الشعب في حال تمّ هجوم من قبل النظام الحاليّ أو هجوم من أيّ عدوّ خارجيّ في المستقبل على سورية أو على إقليم كردستان سورية.» ويرى يوسف أنّ العديدَ من وسائل الإعلام نشرتْ تقريرًا عن قيام قوّات مسعود البرزاني في شمال العراق بفتح «معسكرات تدريب» لمجنّدين أكراد سوريين انشقّوا عن الجيش السوريّ وفرّوا الى العراق. ويتابع يوسف:

«معلوم أنّ الجيش الخاصّ بما يسمّى ‘غرب كردستان’… يُعتبر الجناح العسكريّ لحزب الاتحاد الديمقراطيّ – الوريث السياسي لحزب العمال الكردستانيّ – الذي بات وضعهُ أشبهَ بحكومة ظلّ في محافظة الحسكة، حيث أجرى انتخاباتٍ محليّة خاصةً به في مدن وبلدات محافظة الجزيرة ضمن مشروع ‘الإدارة الذاتيّة’ الذي أعلن عنه باسم ‘حركة المجتمع الديمقراطيّ في غربيّ كردستان’.»(5)

استنادًا إلى ما سبق، نحن أمام «بشمركة» تابعة لأجندة البرزاني والغريلا،(6) تابعةٍ لأجندة حزب العمّال الكردستانيّ، التي يغضّ النظامُ الطرفَ عنها حاليًّا. ونعرف بوجود تقارب بين أنقرة وأربيل، يقابله تقاربٌ بين حزب العمّال الكردستانيّ وطهران. وكلّما ازداد تقاربُ البرزاني ـــ أنقرة ازداد احتمالُ التوتر السياسيّ بين المجلس الوطنيّ الكرديّ الذي يُعتبر عمقًا للبرزاني في الأرض السورية وبين حزب الاتحاد الديمقراطيّ «ب ي د» (الجناح السياسيّ السوريّ لحزب العمّال الكردستانيّ). وهنا قد يكون تدريبُ البشمركة السوريّة في أربيل يستهدف، أولَ ما يستهدف، حزبَ العمّال الكردستاني وميليشياته (الغريلا). وهذا يعني أن تكون الساحةُ السوريّة ميدانَ صراع بين أربيل وأنقرة من جهة، وحزب العمّال الكردستاني وطهران من جهةٍ أخرى.

ثم إنّ مِن شأن حمل السلاح من طرفٍ واحدٍ، وفي منطقةٍ، كـ «الجزيرة» السوريّة، تعجّ بمكوّناتٍ دينيّةٍ وإثنيّةٍ متباينة، أن يكون مسبِّبًا لتوتّرات لا تنتهي. وهذا ما خبِرناه في كلّ مناطق النزاع ذات التعدّد الإثنيّ والطائفيّ، كلبنان مثلاً، وهو أمر له إشكاليّاته حتى حين يكون السلاحُ مشروعًا ولأجندةٍ وطنيّة (كحال المقاومة ضدّ إسرائيل)، فما بالك حين يكون في خدمة أجندة أخرى؟

● لا يمكن فصلُ إشكاليّة السلاح عن إشكاليّة الوضع السوريّ ضمن محيطه الدوليّ والإقليميّ.

فعلى الصعيد الإقليميّ، تشكّل سوريا إحدى الدول الأساسيّة في المحور الإيرانيّ الذي يسعى إلى تعزيز حضوره في المنطقة، واستعادة مجده الفارسيّ. وهي حلقة الوصل بين طهران وحزب الله والمقاومة الفلسطينيّة. وهذا يعني أنّ طهران لن تتخلّى عن النظام السوريّ لأن المسألة بالنسبة إليها ليست مسألة نظام بل مسألة مصالح ستدافع عنها حتى النهاية. ولعلّ اتجاه الأمور نحو التسلح يعطيها الغطاءَ الكاملَ لتقديم الدعم العسكريّ لحليفها.

ومن جهة ثانية، تسعى أنقرة لاستعادة مجدها الإقليميّ الذي بدأتْ تتطلّع له منذ انهيار الاتحاد السوڤياتيّ، ويتمثّل في «بناء عالم تركيّ يمتدّ من بحر إيجة إلى تركمانستان الصينيّة» على حدّ تعبير الرئيس التركيّ الراحل تورغوت أوزال.(7) يضاف إلى ذلك ما تمثّله سوريا بالنسبة إليها اقتصاديًّا، وكبوّابةٍ رئيسةٍ إلى العالم العربيّ ككلّ. كما تنبغي الإشارة إلى نزوعها الدائم إلى إنهاء وجود حزب العمّال الكردستانيّ على الأراضي السوريّة، وهو سرّ تقاربها مع أربيل كما ذكرنا سابقًا. وهنا أيضًا ستعمل أنقرة على الدفاع عن مصالحها حتى النهاية. ولعلّ ذهاب أقسام من المعارضة السوريّة إلى العسكرة كان بدفعٍ من أنقرة التي تحتضن «المجلس الوطنيّ السوريّ.» ذلك لأنّ أنقرة لم يعد بوسعها الخروجُ خاسرةً، وستدافع عن مصالحها حتى النهاية. وهو ما تفعله من خلال تأمين كلّ أشكال الدعم للمعارضة السياسيّة والمسلّحة.

ولأنّ درء الاعتراض داخل الخليج يتمّ بتجفيف منابع الخارج، تعمل قطر والسعودية على منع وصول الربيع إليه. وهذا لا يتمّ إلا بحرف الربيع عن مساره الديمقراطيّ إلى مسار الصراع السنيّ ـــ الشيعيّ، عبر تضخيم الخطر الإيرانيّ إلى حدّه الأقصى، مقابلَ إهمال الخطر الإسرائيليّ. وهنا يبدو التعاونُ القطريّ ـــ السعوديّ ـــ التركيّ واضحًا.

على صعيد رابع، فإنّ إسرائيل هي الدولة الأكثر اهتمامًا بما يجري في سوريا، إذ تضع نصب عينيها: تفكيكَ الجيش السوريّ، وتدميرَ ترسانة الأسلحة السوريّة، كما حدث في ليبيا. وهنا ستبذل إسرائيل كلّ جهودها لإبقاء الصراع على ما هو عليه، من خلال دعم كل الأطراف بما يحقّق مصلحتها، ولاسيّما أنّ خسارتها حليفيْها (مبارك وبن علي) ستدفعها إلى البحث عن مرتكزات أخرى، خاصة على حدودها الشماليّة.

انطلاقًا ممّا سبق، فإنّ خيار التسلّح، الذي كان بدفعٍ من هذه الدول الإقليميّة ودعمها، شكّل غطاءً لأجندة تلك الدول التي لا تهمّها حريّةُ السوريين، وإنْ تشدّقتْ بها ليلَ نهار، لأنّ بلدانها تعاني سجلاً مخجلاً في مجال حقوق الإنسان، والأوْلى أن تلتفت إلى حريّة شعوبها قبل أن تناضل لحريّة السوريين!

هنا قد يظنّ البعضُ أنّ الحسم العسكريّ قد يفيد. نعم، قد يؤدّي التسلّح إلى إسقاط النظام وتفكيك الجيش السوريّ وترسانته العسكريّة كما تريد تلك القوى، ولكنه لن يؤدّي إلى بناء دولة وطنيّة ديمقراطيّة. فطهران لن تقف مكتوفة الأيدي إذا سقط النظام لأنّ الساحة السوريّة هي ساحةٌ يحتاجها الأمنُ الإقليميّ الإيرانيّ، كما التركيُّ والسعودي؛ لذا ستسعى طهران إلى دعم ميليشيات خاصةٍ بها، تَستنزف المنتصرين، كما فعلتْ في العراق لمواجهة الأمريكان، وسيساعدها في اتّباع هذا السيناريو امتدادُ المسألة السوريّة إلى لبنان حيث لطهران وجود فعّال. ومقابلَ ذلك ستدعم الأطرافُ المقابلةُ جهاتٍ تابعةً لها، ليبقى السؤال: أين مصلحة السوريين من كل ذلك؟

وعلى الصعيد الدوليّ، تشكّل سوريا المنفذَ الوحيدَ لروسيا على المتوسّط؛ عدا عن كونها سوقَ سلاحٍ محسوبةً تاريخيًّا للروس. وهذا يعني أنّ موسكو لن تسمح أبدًا بضرب مصالحها في سوريا. وإذا كان بقاءُ النظام السوريّ سيؤمّن لها تلك المصالح، فستقف إلى جانبه عسكريًّا. وهذا يعني أنّ خيار التسلّح في سوريا في ظلّ عدم مراعاة المصالح الروسيّة يعني دخولَ روسيا طرفًا في أيّ صراع عسكريّ داخليّ، مباشرٍ أو غير مباشر. إنّ ما يَحْكم موقفَ موسكو، وكذلك بكين، هو إدراكُهما أنّ واشنطن تسعى إلى حصارهما. ذلك لأنّ سقوط سوريا سيعني بعد فترةٍ: أ) سقوطَ إيران، التي تأخذ بكين ثلاثين بالمئة من نفطها؛ ب) اقترابَ الأمريكان من آسيا الوسطى، حيث النفوذُ الروسيّ والصينيّ. ثم إنّ الصعود الإسلاميّ في المنطقة العربيّة جعل بكين وموسكو تخشيان من القادم، لأنّ آسيا الوسطى ذات حضور إسلاميّ واضح، وهما تخافان أن تحاكيَ الربيعَ العربيَّ الأقليّاتُ الإسلاميّةُ داخل البلدين (داغستان والشيشان في روسيا، والإيغور في الصين) وكذلك غيرُ الإسلاميّة والعرقيّة، خاصة أنّ واشنطن أعلنتْ منطقة المحيط الهادي منطقة حيويّة لها في قادم الأيام، وهو أمر يستهدف بكين بالدرجة الأولى.(8)

مقابل ذلك، تدرك واشنطن وبعضُ القوى الأوروبيّة أنّ ما يحدث في سوريا قدّم لها فرصة سانحة لكسر المحور السوريّ ــ الإيرانيّ، وللتخلص من سلاح المقاومة اللبنانيّة والفلسطينيّة. وستعمل على دعم المسلّحين بغية تحقيق تلك الأجندة؛ فإنْ لم تضمن وصول نظام يدور في فلكها، فإنها ستسعى إلى إبقاء سورية في حالة الاستنزاف الكاملة. وهو ما يحصل الآن.

إذن، تستقرّ القراءةُ الإقليميّة والدوليّة على أنّ الساحة السوريّة، في ظلّ السلاح، ستتحوّل إلى مكان لتحقيق أجندة الآخرين من دم الشعب السوريّ النبيل، الذي لن يبلغ حريتَه في هذه الحالة، حتى لو سقط النظام، لأنّ الإشكاليّات التي سيفجّرها في الداخل السوريّ ستكون أكبر من أن تحتملها الساحةُ السوريّة. فهل يملك أنصارُ التسلح أجوبةً لكلّ ما سبق؟

دمشق

❖ كاتب وشاعر سوريّ. وهو يودّ ان يتقدم بشكر خاص الى الصديقين باسليوس زينو ودارا عبد الله لقراءتهما هذا البحث قبل نشره وإبداء ملاحظاتهما القيّمة.

(1) أوس مبارك، «ليس شرخًا في الثورة!،» الحياة، 4 /5/ 2012.

(2) «الأسعد: سلاحنا يكفي بالكاد لحرب عصابات… وأداء المجلس الوطنيّ انعكس علينا،» الحياة، 30/ 3/2012.

(3) يزيد صايغ، «الاختبارات المقبلة للمعارضة السوريّة،» مركز كارنيغي للشرق الأوسط، تاريخ 19/4/2012.

(4) http://ar.aswataliraq.info/%28S%284jlchp451wlio1bfvoimjh55%29%29/Default…

(5) سليمان يوسف، «سورية: خطر التقسيم والنزاع على إقليم الجزيرة،» سيريا بوليتيك (نقلا عن السياسة الكويتية)، 2 /5/ 2012 .

(6) البشمركة هي قوات مسلحة تعمل بإمرة مسعود البرزاني. أما الغريلا فهي الميليشيات المشكلة من قبل حزب العمّال الكردستانيّ.

(7) لمزيد من المعلومات عن الدور التركيّ يمكن قراءة مقال محمد سيد رصاص، «الأردوغانيّة ومآزقها،» الأخبار، 4 /6/ 2012.

(8) لمزيد من المعلومات راجع: http://ara.reuters.com/article/worldNews/idARACAE85205W20120603

الآداب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى