السلبي و الإيجابي في الحديث عن الطائفية
مازن كم الماز
إذا استثنينا “زعماء الطوائف” و رجال الدين الذين يتصرفون كزعماء لطوائفهم , بالنسبة لبقية “السياسيين” و “المثقفين” فإن المبرر الأساسي لحديثهم اليوم بشكل إيجابي عن الطائفية هو شعبوية و انتشار هذه المشاعر الطائفية .. إن أي سياسي أو مثقف منشغل بالسياسة لا يفكر إلا بمنطق الدولة – السلطة , حتى لو كان في المعارضة .. و وفقا لهذا المنطق يقال أن الدولة تنظر بشكل سلبي جدا لكل تشكيلة أخرى على هذه الدرجة العالية من التماسك بحيث تهدد تماسك الدولة نفسها و توجه ولاء جزء مهم من “مواطنيها” نحو سلطة أخرى غير سلطة الدولة التي تعتبر نفسها السلطة الجامعة .. لكن مع ذلك يجب ألا تخدعنا الخطابات الإعلامية , لدينا النظام السوري الذي يعلن نفسه نظاما “علمانيا” بينما يمارس طائفية قذرة تصل إلى مستوى التطهير الطائفي بارتكاب المجازر , لدينا أيضا صدام حسين الذي عاش كبطل “قومي” و مات كبطل لطائفته .. كما أنه يجب ألا ننخدع أيضا بالمضمون الديني للطائفية كهوية و انتماء و كموقف يدين الآخر , الحقيقة أن الطائفية كأية إيديولوجيا أخرى , ليست إلا أحد أساليب إنتاج السلطة .. عندما يستخدم الدين في السياسة فإنه يستخدم لإنتاج سلطة الدولة الثيوقراطية أو الدينية .. أما ما قد يختلف عليه السياسيون و المثقفون فهو الفوارق بين الدولة الثيوقراطية و الدولة القومية “الحديثة” .. قد يكون من المفاجئ هنا أن نذكر أن التيارات الأبرز في الحركة الصهيونية منذ تأسيسها حتى اليوم مثلا هي تيارات “علمانية” بل و “حداثية” و أن المتدينين اليهود كانوا إما معارضين لهذه الحركة أو كانوا طرفا هامشيا جدا فيها , إن الحركة الصهيونية ليست إلا حركة قومية برجوازية هدفت مثل أية حركة قومية لإقامة وطن قومي أو دولة قومية .. الحقيقة أن التنوير الذي يردده السياسيون و المثقفون الليبراليون لم يؤد فعلا إلى خلق دول كوزموبوليتية , متعددة القوميات و الأعراق و الأديان كما يفترضون .. إذا استثنينا بعض الفيدراليات متعددة القوميات , فقد بقيت الدولة الحديثة “دولة قومية” , و حتى بعد زوال عصر الاستعمار المباشر الذي اشترط موقفا عنصريا وقحا من الشعوب المستعمرة , فقد استمرت العنصرية فيها بأشكال مختلفة حتى في أكثرها “ديمقراطية” .. رغم أن التمييز بين البيض و السود قد ألغي قانونيا في الولايات المتحدة الأمريكية منذ سبعينيات القرن الماضي لكن الفروق في الأجور و معدلات البطالة و التعليم و حتى معدل الجريمة بين البيض و السود ما تزال هائلة و هي أكبر بكثير حتى بين العمال البيض و بين العمال المهاجرين .. إن كل دولة قومية تثبت في دستورها أو في الممارسة الهوية القومية , و الدينية أحيانا , لغالبية “مواطنيها” , فإنها بذلك تحدد درجات المواطنة المختلفة “لمواطنيها” .. هذا لا يعني أن كل حاملي تلك الهوية القومية أو الدينية هم الحاكمون الفعليون لهذه الدولة , إن درجات المواطنة المختلفة هنا تعني في الحقيقة تفاوت بين “حقوق” المحكومين أنفسهم , و هذه بالضبط وظيفة الهوية الدينية أو القومية أو الطائفية للدولة , أي خلق رابطة بين المحكومين , بين غالبيتهم أو بعضهم على الأقل , و بين من يحكمهم , من خلال “امتيازات” جزئية يحصل عليها حملة هذه الهوية مقابل تركز الامتيازات الفعلية الأضخم على مستوى الدولة في أيدي الحكام الفعليين .. لا تعني الفروق الكبيرة بين مستوى حياة العمال البيض و السود في أمريكا أنها دولة للعمال البيض بل للرأسمالية البيضاء .. صحيح أن هناك “توتر” ما بين الانتماء ( أو الخضوع ) للدولة و بين الانتماء لأحد قومياتها أو طوائفها , ليس فقط من أفراد الطوائف أو القوميات المضطهدة التي لا تنتمي “لهوية” الدولة الرسمية أو غير الرسمية ( النظام السوري مثلا يوصف بأنه نظام علوي بينما كان نظام صدام يوصف بأنه نظام سني رغم أن كليهما كان يعلن أنه نظام “قومي علماني” ) , بل أيضا من خطورة أن يظهر “رأس” آخر للمجموعة القومية أو الدينية أو الطائفية ينافس رأس الدولة , عادة على أساس مواقف و سياسات أكثر تطرفا أو أكثر تصلبا من “الآخر” أو على أساس “تطبيق” “أكثر حرفية” للنصوص الدينية أو على أساس “انتماء” أكثر وطنية أو قومية “للأمة” أو “للشعب” .. هناك دوما حاجة لإبقاء إيديولوجيا السلطة , المعلنة أو الفعلية , تحت “السيطرة”, و إلا فإنها قد تؤدي إلى انفجار السلطة نفسها , غالبا عن طريق استخدامها كوسيلة للتعبير عن احتجاج شعبي ضد السلطة نفسها أو للتعبير عن نخبة منافسة .. عندما استخدم ماو و أنصاره في قيادة الحزب , بمن فيهم زوجته , غضب القواعد و الجماهير من سلطة البيروقراطية ضد خصومه فيما عرف بالثورة الثقافية , اضطر هو شخصيا بعد وقت قصير لأن يوقف تلك “الثورة” , لأن مثل هذه الثورة , مع الفوضى التي أحدثتها , كانت تهدد بالإطاحة بالبيروقراطية الحاكمة ككل و ليس مجرد الإطاحة بخصومه فيها .. في السعودية أيضا , و لدرجة أقل في دول الخليج الأخرى , أصبحت السلفية , الإيديولوجية الرسمية للسلطة , هي نفسها وسيلة التعبير الأبرز عن المعارضة المتزايدة للنظام .. الحقيقة أن السياسيين الحكام منهم أو المعارضين قد يجدون دائما شيئا إيجابيا في الطائفية , خاصة إذا كان من الممكن أن يستثمروها لصالحهم , المشكلة هنا كما في كل إيديولوجيا سائدة , في من تستخدم كل هذه الإيديولوجيات كمبرر لإخضاعهم , لتقسيمهم , لإضعافهم , لمحاولة تأبيد وضعيتهم كتابعين , أو كعبيد .. بالنسبة لهؤلاء لا يوجد أي شيء إيجابي في أي فكر أو عقيدة , أيا تكن , تبرر استعبادهم .. كما أنه ليس للاستبداد و الاستغلال وطن أو دين , ليس للحرية وطن أو دين