مراجعات كتب

السلطانات العثمانيات وإشكالية سرد حكاياتهن/ عبد القادر عبد اللي

 

 

لم يكن الكاتب التركي أورهان باموق الحائز على جائزة نوبل أول من طرق باب الرواية التاريخية في الأدب التركي، ولعله ساهم بازدهار هذا النوع من الكتابة، باعتبار أن الرواية التي نقلته إلى العالمية “القلعة البيضاء” هي رواية تاريخية، وكذلك روايته التي حظيت بالشهرة الأوسع “اسمي أحمر”.

والملاحظ أن العقد الأخير شهد صدور روايات كثيرة عن دور النشر التركية تحت تصنيف “تاريخية”، والتي تعتبر من أكثر أنواع الكتابة جدلاً، فالسؤال الذي يلح على القارئ والمتابع: “ما هي درجة تطابق الواقع التاريخي مع أحداث الراوية؟” ليقابله سؤال آخر من قبل الكتاب: “ما هي درجة تطابق الواقع التاريخي مع التأريخ نفسه؟” فعلى الرغم من صدور مئات الروايات التاريخية التي تناولت التاريخ العثماني ينكر المؤرخ التركي “إلبر أورطايلي” وجود رواية تاريخية في تركيا، وبالطبع ما يقصده أورطايلي هو تلك التي لا تتضمن ما هو غير موثق.

ولعل الحرم في القصور عموماً، والقصر العثماني خصوصاً من أكثر المواضيع جذباً للفنانين كافة، فقد شغل الفنانين التشكيليين المستشرقين. وفي الحقيقة إن لوحاتهم حول الحرم العثماني لم تكن سوى خيالاً، ويعتبرها أكثر المؤرخين العثمانيين موقفاً سلبياً مسبقاً من المسلمين عموماً، والعثمانيين خصوصاً، لأن الحرم كان محرماً على من هم خارج الأسرة المالكة، وبما أن السلاطين كانوا يقتلون الأخوة وأبناء الأخوة حتى الفترة الوسيطة من الدولة، فقد كان هذا الجناح محرماً على الذكور ما عدا أبناء السلطان. هذا الغموض، وقلة الوثائق التي تتناول حياة الحرم أو عدم تمكن الروائيين من قراءتها لأنها مكتوبة بالأحرف العربية، ولم تترجم كلها بعد إلى التركية الحديثة، فتح المجال واسعاً أمام الفنانين لإطلاق العنان لخيالهم لتصوير تلك الحياة السرية المثيرة.

يتألف الحرم من زوجة أو زوجات السلطان، وعشيقاته، وأمه إن وجدت وأخواته، وجواريه. وهناك فترة في التاريخ العثماني لعبت فيها زوجات السلاطين وأمهاتهم دوراً فاعلاً في السياسة، ولهذا السبب سميت إحدى الفترات في التاريخ العثماني بعصر “سلطنة النساء”، والتي تبدأ من أواخر عهد سليمان القانوني، واستتباب الحكم لزوجته “حُرّم” أم السلطان سليم الثاني، إلى فترة حكم السلطانة “طورهان”. وبرزت بين فترة حُرم وطورهان كل من السلطانات “مهريماه” ابنة السلطانة حُرم والتي عُدت شريكة والدتها في السلطة في عهد الصدر الأعظم رستم باشا زوجها، و”نوربانو البندقية” زوجة سليم الثاني، و”صفيّة” زوجة مراد الثالث، وكوسم زوجة سلطان وأم سلطانين، وجدة سلطان.

الجارية الموسكوفية “حُرّم”، والجارية المورة لية (نسبة إلى مدينة مورة اليونانية) “كوسم”، هما أهم شخصيتين نسائيتين في القصر العثماني. لعبت هاتان المرأتان دوراً فاعلاً في سياسة الدولة، فيروى أن حُرّم زوجة السلطان سليمان القانوني، وأم السلطان سليم الثاني أثرت في فترة حكم زوجها، وخاصة على صعيد إبعاد ابن (ضرتها) الذي كان يحظى بحب أغوات الانكشارية والقضاء عليه على يد والده. ولعل غموض طفولتها ونشأتها تثير خيال الكتاب ليذهبوا من اعتبارها جاسوسة للروس، إلى اعتبارها واحدة من أفضل نساء القصر بوقوفها إلى جانب زوجها سليمان الذي وصلت الدولة العثمانية في عهده إلى ذروة تألقها، وبخيرها الذي نالت منه حصة كثير من نساء إسطنبول في عهدها. ولعل هذا ما جعل الكتاب يتناولون هذه الشخصية كثيراً في الروايات ويمكن إحصاء أكثر من خمس عشرة رواية حملت اسم هذه الجارية روكسلانا “حُرّم” التي تزوجت من السلطان، وأصبحت “سلطانة والدة”. وتتنوع هذه الرؤى بين من وضعها بمصاف القديسين كما فعل المؤرخ التركي طلحة أوغورلو إل، إلى اعتبارها امرأة استخدمت مكائد في سبيل الوصول إلى هدفها. ولعل الكاتبات كن أكثر جرأة في طرح المشاعر العاطفية لتلك الشخصيات التاريخية والبطلات الروائية، فقد غاصت الروائية دمت آلطن يلكلي أوغلو، في المشاعر الأنثوية لحُرّم، وصورت كثيراً من الصور الحميمية بينها وبين السلطان سليمان القانوني في سبيل إقناع القارئ بتأثيرها على السلطان، حتى أنها عرّجت على علاقة محرمة لها مع حبيب طفولتها.

وربما كان عهد السلطانة كوسم أكثر تعقيداً من عهد حُرم، فقد وصلت المكائد والمؤامرات إلى الذروة في عهدها. فهي زوجة السلطان أحمد الأول، واستمرت سلطنتها في عهدي ابنيها مراد الرابع وإبراهيم، وحتى حفيدها السلطان محمد الرابع، ومعاصرتها أربعة عهود جعلها بؤرة اهتمام الروائيين، إذ إنها عند وفاة زوجها السلطان أحمد، أُرسلت إلى القصر القديم، وجلس على العرش كل من مصطفى الأول وعثمان الثاني، وهنا جمعت حولها مجموعة من رجال الدولة، ولعبت دوراً مهماً بإسقاط هذين السلطانين ووصول ابنها مراد الرابع إلى العرش وهو في الحادية عشرة من عمره.

ولكن الكاتبة الشابة شيدا قوتش في تحولها نحو الكتابة في التاريخ العثماني، تناولت شخصية كوسم في روايتها التي صدرت حديثاً “بلبل الجنة: السلطانة ماهبايكر كوسم” في حالة عشق لم تصل إليها زميلتها دمت آلطن يلكلي أوغلو. ولعل ميولها المحافظة دفعتها إلى الاهتمام بحب “أناستاسيا” الخالص الصافي للسلطان، وإظهار الجانب الإيجابي في هذه السلطانة، ومساهمتها بإدارة الدولة على أفضل وجه مما جعلها تطلق صفة “بلبل الجنة” عليها.

تُبرز الكاتبة خلال الرواية شعور البطلة كوسم بالنقص لكونها جارية، وهذا هو شعور كل جارية تدخل الحرم السلطاني، إلا أن البطلة تحاول استثارة عطف عشيقها السلطان أحمد لتنتقل من وضعها كعشيقة إلى وضع أسمى، فتسأله في إحدى المرات: “وما العشق يا سلطاني؟ من المؤكد أنني سعيدة بجانبكم. ولكن في وقت محدود، وبالقدر الذي تسمحون به. أنا بقربكم أشعر بالاعتزاز، وأطفح بالحب. ولكنني عندما أخرج من هذه الغرفة فالعيون كلها عليّ. فأنا أناستاسيا الابنة الوحيدة لكاهن أرثوذكسي فقط، وأرزح تحت النظرات المهينة!” هل يقبل السلطان بأن تكون “محظيته” التي يقضي معها أجمل اللحظات تحت نظرات مهينة؟

يرد عليها السلطان العاشق بكلمات من شعر الغزل الكلاسيكي المنتمي إلى ذلك العصر: “اصمتي يا كوسم! أغلقي شفتيك زهرتي شقائق النعمان، فهذا لا يليق بهما! لا تخرجي كلمات سيئة من بين شفتيك اللتين تفوحان برائحة الشراب. لكل نفس ثمن، ولكل ثمن زمن. وثمنك ليس العشق. أدعو ألا يمتحن الله عشقنا هذا بأثمان باهظة يا سلطانتي!”.

وبهذا تنتقل الجارية أناستاسيا بذكائها ومساعدة جمالها من وضع العشيقة إلى الحسكة ماهبايكر كوسم، والحسكة في تقاليد العصر العثماني هي الجارية التي تحمل من السلطان، وتنجب له ولداً. وهذه الوضعية من الناحية القانونية تمثل طبقة أعلى درجة من العشيقة ذات الحظوة، وأدنى درجة من الزوجة. ولكن كوسم الجميلة والذكية تمكنت من ولوج قلبه لتصبح زوجة شرعية له، وهذا في تقاليد القصر العثماني يتم عبر اعتناق الحسكة الإسلام، على غرار الشخصية الإشكالية الأخرى حُرّم.

وكما يلاحظ فإن حياة هذه السلطانة غنية بالأحداث المتنوعة من العشق إلى حبك المؤامرات والتخطيط للانقلابات، وما عاشته في الواقع هو موضوع درامي فيه من الإثارة ما يجذب القارئ، فكيف إذا لعب خيال الكاتبة دوراً بعرض المشاهد الرومانسية والعاطفية التي لا يشهد عليها سوى أبطالها؟

تغوص الكاتبة قوتش في مجاهيل شخصية أناستاسيا، وتدخل فيما لم يتطرق إليه الآخرون، وتستخدم لغة تمزج بين الكلاسيكية والمعاصرة، فالكلمات الكلاسيكية التي توشي فيها جملها الروائية تعطي انطباعاً بأنها تنبعث من أعماق التاريخ.

(كاتب من تركيا)

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى