السلطة إذ تبدو وكأنّها… إنكشاريّة!
نهلة الشهال
منذ أيام، قال وزير الإعلام السوري، عمران الزعبي، أن الدولة وفرت الكهرباء والتعليم للناس منذ الاستقلال وحتى اليوم. كان ذلك في معرض تساؤله عما سيقدمه المتمردون (بمعنى «أكثر من ذلك»، أو بمعنى «أصلاً»)، مضـــــيفاً أنهم يسرقون تمديدات الكهرباء وقوارير الغــــاز! وفي هذا الكلام منّة على من يستفيدون من تلك الخدمات، وكأنها ليست بديهية. كأنها منحة من ملاَّك لأتباعه. وقد اقتطع هذا الكلام من التقرير الصحافي الرسمي، واختفاؤه علامة على أحد أمرين: فإمـــا أن رقيباً أكثر فطنة من الوزير تنبه الى بشاعته، وإما أن رقيباً اقل فطنة منه اعتبره كلاما في أمور نافلة أصلاً ولا أهمية لها. ولكن التسجيل الاذاعي متاح لاستماع من يريد، ويملك الصبر على ذلك.
والمنّــة هي المستوى الأول من التأويل، بينما العطب العميق يقع في افتراض الناس مجرد مستهلكين للكهرباء والطحين والغاز والتعليم… (واللائحة تتفاوت بالطبع قصرا أو طولا تبعاً للظـــروف)، فمتى ما أُشبع استهلاكهم اكتفوا، وصــــار لزاماً عليهم الرضا. ويمكن بالطبع الجدال في الوضع المخصوص لسورية، لتبيان كيف تراجعت تلك الخدمات هي نفسها، نوعياً كما حال التعليم والطبابة، أو لجهة الإفقار الذي لحق بالناس، وبــــدأ مـــع الاجراءات الليبرالية مطلع التسعينات ثم شهـــد قفزة مهولة منذ استلام بشار الاسد للسلطة.
لقد انهارت أوضاع الشرائح الدنيا المدينية وأبناء الارياف، متسببة بعجزهم المتزايد عن الاستفادة من تلك الخدمات. ولا يمكن لمن يتأمل في خريطة التمرد الشعبي السوري وبقاع انتشاره، وبؤره العصية على الاستسلام رغم القمع الفظيع، إلا أن يلحظ الترابط بينها وبين أماكن تواجد تلك الفئات المصابة بالإفقار المتعاظم. وهذا الجانب ليس سوى أحد مستويات الصراع، ولا يلخصه بأكمله. إلا أنه مستوى لا يمكن تجاهله، ولا الاستمرار بقبول تلك الحجة التي تردد ببغاوياً من قبل أوساط السلطة في سورية وخارجها، عن الجنة المعيشية المفقودة، وعما يريده السوريون أكثر مما توفَّر لهم.
ففي ما قاله الوزير وفي هذه الحجة، مفهوم بهائمي للبشر، وهو أفدح من التمنين. فإن قيل إن النزوع الى الحرية هو بأهمية الخبز، بانت أسنان الحكام الصفراء، واعتبروا الكلام مغرضاً وتحريضياً. وإن قيل كمثال توضيحي، إن المعتقلين في أبشع السجون، ينظِّمون أنفسهم لتوفير حلقات نقاش وتعليم في الفلسفة والرياضيات، مما لا صلة له مباشرة بظروف حياتهم في المعتقل (وربما خارجه)، أو بشروط بقائهم على قيد الحياة، اعتبر الحكّام الممارسة من قبيل قتل الوقت. لماذا لا يفهم المستبدون حاجة البشر الى الحرية والى الثقافة والى المتعة؟ لماذا يتكرر ذلك الكلام عن «كهربة الريف» (رحم الله لينين) كلما ذهب النقاش الى مقاييس التقدم والتأخر؟ مع العلم أن توفير الطعام والطبابة والتعليم والسكن… والكهرباء، أساسيات، بوصفها حقوقاً تُصنّف الدول العاجزة عنها دولاً فاشلة.
ولكن الوزير لم يتوقف عند هذا الحدّ. فهو قدم روايته الشاملة للموقف، فأنكر معرفته بدعوة الموفد الدولي والعربي، السيد الاخضر الابراهيمي، الى سورية (قبل ساعات من وصوله إليها)، موحياً بأن الرجل، إذا أتى، فسيكون ذلك بمبادرة منه (بمعنى، هم لا يستجْدون). وركز على أن المعارضة ترفض الحوار لأنها تعرف انه سينتهي في صناديق الاقتراع، حيث ستُغلب. وبالمناسبة، طورت السلطة السورية خدمة الرسائل الهاتفية النصية، وراحت ترسل إلى خارج الحدود «أخباراً» من نوع «ديبلوماسيون: شعبية الأسد تخطت 80 في المئة». ويمكن لمن يشاء الاغتباط لأن الرقم المرغوب لم يعد 99.99 في المئة، ولا حتى 95 في المئة، العتيدين، اعتباره تقدماً.
وأما الركيزة الثانية في خطاب الوزير الذي يلخص منطق السلطة، فيتعلق بتعيين هوية من يخوضون المعركة الدائرة، والتي يحددها بأنها تستهدف «دور سورية الوطني والقومي والاقليمي»… إنهم «جبهة النصرة» المتحدرة عن القاعدة. وهم إذاً إرهابيون ولا شيء سوى ذلك.
قتل في سورية حتى الآن 45 ألف إنسان. هذا عدا الجرحى والمصابين بعاهات دائمة جسدية ونفسية، والمعتقلين والمختفين. منذ أيام، وصل الدقيق الى بلدة حلفايا قرب حماة بعد انقطاع طويل. ولما تجمهر الناس أمام الفرن، قصفوا. تُشكك وسائل إعلام السلطة بالرواية برمتها، وتقول إنه لا قصف ولا ضحايا ولا من يحزنون. وبمهنية، يجري تفنيد أشرطة الفيديو الخاصة بالحادث والمبثوثة على وسائل مختلفة، بعضها أساء لسمعته وصدقيته حين أُمسك به بالجرم المشهود للتزوير في حوادث سابقة. ولكن جهود اعلاميي السلطة لنفي الحادث وانكاره تذهب هباء، سواء وقعت مجزرة أم لم تقع فعلاً. وهذا لا يدل على حقد الرأي العام على حكام دمشق، أو على سذاجته وقدرة «الجزيرة» وغيرها على التلاعب به، بل على موقف قيمي بالأساس: يعتقد عموم الناس أن هؤلاء الحكّام يرتكبون مجازر متعمَّدة، بغاية الإخافة إلى حد الإرهاب، و/ أو بغاية الانتقام. ووجود قناعة عامة راسخة وعميقة أهم من الوقائع نفسها! فهي تنبئ عن انكسار العلاقة القائمة بين عموم الناس وبين السلطة، مما لا دواء له.
وهذا مع العلم بأن السلطة ليست «مظلومة»، ومُساء فهمها نتيجة مؤامرة محكمة عليها. فالمعطيات المؤكدة تشير الى مقدار ارتكابها لفظاعات متكررة. وهي فشلت وظيفياً وكان يفترض اعادة النظر بها، لولا أن تلك الممارسة تتغذى من نفسها، إذ يبدو دائما في عقل مرتكبيها أنه يمكن تكثيفها للوصول الى النتيجة المتوخاة. وكلما أُمعن في هذا الاتجاه، تورط أصحابه أكثر وبدا التراجع مستحيلاً، وفات أوانه. ثم إن سلطات عارية بهذا الشكل لا تملك خيارات متعددة، طالما هي تعتبر وجودها في الحكم قراراً إلهياً، أو قدَراً يعبر عنه الشعار المبثوث على الجدران: «الأسد الى الأبد» و»الأسد أو نحرق البلد». وهو هذا تحديداً غلاف كل المنطق الذي عبر عنه الوزير في توصيفه لما يجري.
ولكن، وعلى كل ذلك، وفوقه، ثمة في سلوك السلطة ما هو «مجاني»، يتجاوز الوظائف السياسية للقمع مهما كان شديداً، ومهما بدا الوسيلة الوحيدة المتاحة. وهذا الجانب يفضح غربة هذه السلطة عن الناس وبرانيتها. وكأنها انكشارية!
الحياة