السلطة التشريعية فى مصر بين الأسطورة والحقيقة
خليل كلفت
“يمكن أن نأخذ تقريبا كل ألفاظ، وعبارات، قاموسنا السياسى، وأن نفتحها؛ وسوف نجد فى قلبها الخواء”
الفيلسوفة الفرنسية سيمون ڤيل Simone Weil
1: يمكن القول بطريقة مبسطة لن تخلو من نواقص وثغرات وفجوات إن العلاقة بين الدولة والمجتمع تنظمها ثلاث سلطات يُفترض أن تكون منفصلة ومتوازنة رغم الوحدة التى تجمعها والتداخل وحتى التشابك فيما بينها وهى السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية: فالسلطة التشريعية تتولى إصدار وتعديل وإلغاء ورقابة القوانين، والسلطة التنفيذية تتولى إدارة مهام الدولة على أساس تلك القوانين، والسلطة القضائية تتولى الفصل فى المنازعات والدعاوى التى تنشأ عن ممارسة الدولة والمجتمع والأفراد تطبيقا لتلك القوانين، وهنا نأتى إلى سؤال المرجعية التى على أساسها يجرى إصدار القوانين وإذا كانت قد تعاقبت أنواع وصُوَر شتى لهذه المرجعية وما تزال لها بقاياها القبَلية والدينية إلى يومنا هذا فى بعض الدول والمجتمعات فقد انتهى التاريخ الحديث إلى أن يجد مرجعية قوانينه (تشريعاته) فى الدستور الذى يعبِّر بمستويات شتى من الحق والمصداقية أو النفاق والتزييف عن إرادة الشعب.
2: ومن المفترض أن تكون للدستور، وهو القانون الأساسى، مرجعيته بدوره، وهى مرجعية تربط بصورة وثيقة بين إرادة الشعب والمبادئ العامة التى لا يصحّ بدونها تنظيم حياة البشر على أسس مقبولة نسبيا كما تبلورت عبر العصور وبالأخص فى المجتمع الحديث؛ من خلال الممارسة العملية التاريخية الطويلة لحياة البشر والتجارب والدروس التى أودعتها هذه الممارسة قواعد تنظيم الحياة العشائرية والقبلية كما أودعتها الديانات المسماة بالوثنيات والديانات المسماة بالسماوية وهى التى نشأت فى أراضى المنطقة العربية الحالية وانتشرت منها إلى مناطق أخرى فى مختلف قارات العالم، كما أودعتها مع تقدُّم التاريخ إلى الأمام الفلسفات والقوانين الوضعية التى تحكم المجتمعات الطبقية إلى الآن وفقا لمقتضيات مصالح الطبقة الحاكمة. ويفترض الربط الوثيق بين إرادة الشعب والمبادئ العامة أن تتولى إعداد الدستور جمعية تأسيسية مستوعبة تماما ل، وملتزمة تماما ب، مرجعية المبادئ فوق الدستورية كما تبلورت عالميا من جانب وموافقة الناخبين بأغلبية تبلورها هذه المبادئ ذاتها من جانب آخر. وليس صحيحا أن تكون كل “أطياف المجتمع” ممثلة فى هذه الجمعية مهما روج الليبراليون والإسلاميون السياسيون ومختلف القوى السياسية فى مصر لهذه الفكرة فى الفترة السابقة.
3: وهكذا فإن مرجعية المرجع الأساسى المتمثل فى الدستور، أو المبادئ فوق الدستورية، وهى المرجعية أو المبادئ الحاكمة للدساتير، والتى ينبغى أن يلتزم بها كل دستور، تتمثل فى الفضائل التى بلورتها الممارسة العملية التاريخية للبشر وتضمنتها بصدق أو نفاق مختلف أيديولوچيات الأرض والسماء. وتتضمن الإعلانات العالمية لحقوق الإنسان والشعوب وهى قابلة دوما للتعديل والتطوير جانبا أساسيا وحاسما من هذه المبادئ فوق الدستورية التى تلتزم بها كل جمعية تأسيسية فى وضعها للدستور. وإذا كان الدستور الذى تُصدره الجمعية التأسيسية مع التقيُّد الصارم بالمبادئ فوق الدستورية والتى تمثل روح الدستور هو الذى يحكم السلطة التشريعية فى إصدار القوانين أو التشريعات الملزمة للدولة والمجتمع والأفراد، وتلتزم بها السلطة التنفيذية والسلطة القضائية، وإذا كانت هناك محكمة عليا تفصل فى قانونية حكم مختلف المحاكم، فإنه تظل هناك حاجة إلى المحكمة الدستورية العليا التى تتولى الرقابة على دستورية القوانين التى تصدرها السلطة التشريعية والقرارات بقوانين التى يصدرها رأس السلطة التنفيذية وكذلك دستورية تطبيقاتها القضائية كما تتولى تفسيرها عندما تنشأ منازعات تؤدى إلى دعاوى قضائية. وهذه الهيراركية تنطوى على الوحدة العليا بين سلطات منفصلة ومتوازنة للدولة رغم التداخلات التشريعية التى لا مناص منها وحقائق الممارسات الفعلية التى تتغوَّل من خلالها السلطة التنفيذية على باقى السلطات: القضائية والتشريعية والتأسيسية والدستور والمبادئ فوق الدستورية وموسى وكل الأنبياء وفقا لمقتضيات مصالح الطبقة الحاكمة ومختلف مجموعاتها وتكتلاتها فى وحدتها المنطوية دوما على التناقضات.
4: وهناك التباسات عميقة ينطوى عليها مفهوم وواقع الدولة التى تحدثنا بصورة مبسطة عن السلطات التى تكوِّنها وتمثل جوانب ووظائف نوعية لها. وهنا ينبغى أن نشدِّد على أن الدولة كمفهوم اجتماعى تختلف تماما عنها كمفهوم دستورى يتطابق مع البلد أو الوطن أو الأمة أو الأمم التى تشكلت فى دولة وفقا لمفاهيم القانون الدولى، وعلى سبيل المثال فإن مصر دولة بالمعنى المتعلق بالقانون الدولى فهى هذا الإقليم الجغرافى، هذا البلد، الذى تكونت بداخله طبقات هذا المجتمع. وهناك أيضا الحديث الزائف عن الوطن وكأنه هذا الإقليم الجغرافى بنيله وأراضيه وصحرائه الشرقية وصحرائه الغربية وصعيده ودلتاه وليس هذا فى الحقيقة سوى الوطن بمعنى جغرافى وبمعنى البيئة الجغرافية الطبيعية لمصر وبمعنى ارتباط مشاعر المصريَّين بموطنهم بصورة تاريخية على مدى القرون والألفيات. غير أن الوطن الذى ينبغى رفعه فوق كل معنى للوطن إنما يتمثل فى الشعب، فى السكان، وبالأخص فى كل صانعى حضارته دون امتصاص دماء بناته وأبنائه، وأعنى الطبقات الشعبية وجماهير الفقراء.
5: أما الدولة التى يقدسها الحكام والمحكومون عندنا وفى كل مكان آخر ويتغنون بالحديث عن قوتها وهيبتها، وبالأخص عن قوة وهيبة رئيس السلطة التنفيذية الذى يمثل رمزها، وعن قوة وهيبة السلطات والمؤسسات التى تجسِّدها، فإنها لا تستحق، رغم ضرورتها التاريخية، كل هذا الطبل والزمر. فالدولة فى حقيقتها الاجتماعية ليست سوى الأداة التى تنشأ مع نشأة الملكية الخاصة والطبقة الحاكمة الاستغلالية والأسرة الحديثة النووية. وينبغى بالتالى أن نتذكر كلما تحدثنا عن الدولة أنها تلك الأداة الجهنمية التى تضعها فى خدمتها الطبقة الاستغلالية الحاكمة فى مختلف عهود المجتمع الطبقى. غير أننا ينبغى أن نتذكر فى نفس الوقت أن الموقف إزاء الدولة مزدوج بالضرورة، لأنها من جانب تعبَّر عن ضرورة لا فكاك منها فبدونها يتحول المجتمع إلى الغابة وقانون الغاب وقانون أن تأكل أو تؤكل فى الحال، ولكنها من الجانب الآخر تمثل غابة استغلالية ينظمها القانون ومقتضيات المصالح الاجتماعية المتناقضة حيث تسود مصالح الطبقة الحاكمة. وعندما ترتفع الأصوات الجاهلة مندِّدة بمَنْ يزعمون أنهم يريدون تدمير الدولة فإن أصحابها لا يدركون أن الدولة لها معنيان مختلفان تماما كما سبق القول. فالثوريون لا يتحدثون عن الدولة بمعنى البلد أو الوطن أو الشعب أو مصر كدولة وفقا للقانون الدولى بل يتحدثون عن الدولة الطبقية الجهنمية التى هى أداة الاستغلال والاستبداد وفقا لمصالح الطبقة الرأسمالية الحاكمة التابعة بكل قطاعاتها الإسلاموية وغير الإسلاموية للإمپريالية. وهم لا يتحدثون مطلقا عن تدميرها أو إلغائها على الفور دون بديل لتحويل المجتمع إلى غابة، بل يتحدثون على المدى التاريخى عن البديل فى صورة إحلال تنظيم للمجتمع وفقا لمقتضيات المصالح العليا للبشر فى التمتع بحياة إنسانية حرة محل المجتمع الطبقى الاستغلالى بالضرورة والاستبدادى بالضرورة.
6: وتتمثل الدولة بمعناها الاجتماعى، ولنتحدث هنا عن الدولة فى المجتمع الرأسمالى وفى أفنيته أو حظائره أو زرائبه الخلفية المسماة بالعالم الثالث أو البلدان النامية، ومنها مصر، فى تنظيم الاستقرار الضرورى للاستغلال الرأسمالى وحماية الملكية الخاصة بمجموعة مترابطة من الوسائل منها القوانين التى تصدرها السلطة التشريعية، والدستور الذى تلتزم به هذه السلطة فى إصدار القوانين، والسلطة القضائية التى تطبقها على المنازعات والدعاوى التى تنشأ عن الممارسة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للدولة والمجتمع والأفراد، والسلطة التنفيذية التى تدير المجتمع وفقا لهذه القوانين وتعمل على تعديلها لصقلها بما يتلاءم مع مصالحها ومصالح الطبقة الحاكمة ومع توازنات اجتماعية وسياسية متنوعة يفرضها الواقع المتغير عليها. وتتسلَّح السلطة التنفيذية ليس فقط بالقوانين التى تميل إلى حماية الملكية الخاصة أو الملكية الطبقية فى أشكالها الأخرى مثل ملكية الدولة الرأسمالية رغم كل التسميات المضللة كالملكية الاشتراكية، وتميل بالتالى إلى تقييد الحريات والحقوق الفردية والاجتماعية، بل تتسلَّح أيضا بالقوة المادية المتمثلة فى القوات المسلحة العسكرية والشرطية وفى مختلف الأجهزة الأمنية والمخابراتية. وكل هذا ضرورى لتحقيق هدفين متناقضين تماما: هدف الحيلولة دون تحوُّل المجتمع إلى غابة يستحيل فيها حتى الاستغلال المنتظم للجماهير العاملة، وهدف الاستغلال الاقتصادى وما يلازمه من قهر اجتماعى وسياسى وأيديولوچى، ويؤدى هذان الهدفان المتناقضان فى تفاعلهما التراكمى إلى نتيجتين عامتين متناقضتين هما تنظيم وتلطيف الصراع الطبقى من جانب، ومن الجانب الآخر، تطوير وتكثيف الاستغلال الطبقى وبالتالى تطوير الصراع الطبقى وبالتالى التغيير الاجتماعى داخل إطار نفس النظام الاجتماعى الاقتصادى أو بالانتقال إلى نظام اجتماعى اقتصادى أعلى تاريخيا عبر الثورات الاجتماعية وما تأتى به فى مرحلة من مراحل تراكمها التاريخى من ثورات سياسة تزيل العوائق من طريق تحولات الثورة الاجتماعية.
7: وعن الوظائف المتنوعة لهذه السلطات المترابطة للدولة تنشأ آليات مختلفة وممارسات متناقضة. ويتطور الاقتصاد وهو الأساس الحاسم لكل هذه العملية الاجتماعية أو يتدهور وفقا لآليات السوق وعلاقات التبعية والمصالح المتصارعة داخل الطبقة أو الطبقات المالكة ومستويات مقاومة الطبقات التى يجرى استغلالها واضطهادها. وهنا تأتى السلطة التنفيذية للدولة بوصفها لجنة إدارية عليا لتطبِّق الحكومة برامجها الاجتماعية والاقتصادية والإدارية. وتتوزع اختصاصات الحكومة على هيئات وجهات وفروع للسلطة التنفيذية منها التخطيط الاقتصادى والخارجية والدفاع والداخلية والتعليم والصحة والمحافظات والإدارة المحلية وغيرها وغيرها. ولأن هذه الجهات تشتمل على جيش من الموظفين فإن الأوضاع الاقتصادية الفعلية لهذا الجيش هى التى تحكم مستويات فساد أو شرف هذا الجيش، وتقوم هذه الجهات بمسئولية اجتماعية تقصر عنها بالضرورة نظرا للمبدأ الاقتصادى الذى يقوم على الربح وأقصى الربح وصولا إلى تجريف الأساس الاقتصادى لحياة الطبقة العاملة والطبقات الشعبية الأخرى. وتقوم المنازعات فيلجأ مَنْ يستطيع إلى السلطة القضائية التى لا يصل إليها كل مظلوم عجزا عن تحمُّل تكلفة التقاضى، والتى لا تُنصف المتقاضين إلا فى حدود القانون الذى لم يوضع لحماية البشر من الناحية الأساسية، وإلا فى حدود نزاهة الأجهزة الأمنية والإدارية والنيابة والمحامين والقضاة، ونزاهة القوانين ذاتها من حيث عدالة محتواها ومن حيث استبعادها للمحاكم الاستثنائية والعسكرية أو اشتمالها عليها، وكذلك نزاهة الضمائر وهى وثيقة الصلة فى كثير من الأحيان بمستويات المعيشة التى تحققت فى المجتمع لأفراد كل هذه الجهات. ومع التركيز على الضمير يُفترض الميل إلى النزاهة لدى رجال القانون والقضاء، والميل إلى القسوة والصرامة لدى الأجهزة الأمنية، والميل إلى الفساد والرشاوى لدى جيش الموظفين الحكوميِّين بحكم أوضاعهم الاجتماعية الاقتصادية المتدهورة، ويتدهور كل شيء: التعليم والإعلام والصحافة، الصحة والإسكان والتموين، الدفاع والأمن والأجهزة، ويعمّ الفساد كل شيء، ونستثنى دوما الشرفاء أصحاب الضمائر الحية الذين يحافظون بمعاناتهم الرهيبة على بقية من الطابع الإنسانى فى مجتمع فاسد من القمة إلى القاعدة. وفى مثل هذا المجتمع يعمّ الفساد الحياة السياسية بكل جوانبها، دامغا استفتاءاتها وانتخاباتها وأحزابها ومجالسها المنتخبة وكل قيادات الدولة بالفساد الشامل.
8: وبالطبع فإن سلطات الدولة بعيدة تماما، رغم حديث العلم السياسى والدساتير عن انفصالها وتوازنها، عن أن تكون متساوية فى القوة والفاعلية. ولا جدال فى أن السلطة التى تملك القوة المادية الاقتصادية والإدارية والعسكرية، أىْ السلطة التنفيذية، هى التى تمثل فى كل الدول فى كل البلدان، مهما يكن هذا بمستويات مختلفة، مركز السلطة العليا والقوة الفاعلة بلا منازع والقدرة على السيطرة الفعلية على الحياة السياسية، ولهذا فهى المتهمة عن حق دوما بالتعملُق والتغوُّل والسيطرة على باقى السلطات التى يفترض وَهْم الديمقراطية المتمثلة فى الدولة من أعلى انفصالَها وتوازنَها واستقلالَ كل منها. ومن هنا فإن حلم التغيير الجذرى عن طريق الثورة السياسية فى سياق ثورة اجتماعية لا يكون إلا بإحلال طبقة اجتماعية أخرى وحلفائها محل الطبقة الحاكمة وحلفائها فى السيطرة على هذه السلطة التنفيذية فى المحل الأول. وبالطبع فإن كل سلطات الدولة تشتمل من أعلى على القيادات التى تمثل الطبقة الحاكمة ومن أسفل على القواعد التى تمثل الطبقات الشعبية، وحلم التغيير يتعلق بالإطاحة بالقيادات التى تشكِّل جزءا لا يتجزأ من الطبقة الحاكمة والتغيير التدريجى لعقلية القواعد التى سوف تبنى المجتمع الجديد. وبالتالى فإن القيادات العسكرية تختلف جذريا عن أفراد الجيش فهؤلاء رغم استخدام الطبقة الحاكمة لهم ضد الشعب عند الضرورة ليسوا فى الحقيقة سوى أبناء وبنات الشعب وفلذات أكباده، وينطبق الشيء ذاته على القيادات الشرطية من جانب وجنود وضباط الشرطة من جانب آخر وعلى القيادات الإدارية العليا من ناحية وجيش الموظفين الحكوميِّين (وغير الحكوميِّين) من الناحية الأخرى، وباختصار فإن التغيير الثورى يستهدف بالوسائل السياسية الثورية چنرالات السلطة التنفيذية وباقى السلطات ولا يستهدف قواعد هذه السلطات مع ضرورة إعادة تربيتها فكريا وسياسيا فى إطار نظام تعليمى أرقى للتربية العلمية والثقافية والسياسية. ومن الواضح أن قواعد هذه السلطات جزء لا يتجزأ من الشعب رغم استخدامها بأساليب وآليات مختلفة ضده.
9: فإذا ذهبنا إلى السلطة التشريعية أىْ الپرلمان، فى نظام رئاسى أو پرلمانى على السواء، فإنها إنْ لم تكن بالتعيين، سلطة تشريعية منتخبة، رغم أىّ تعيين جزئى، ومن المفترض أن أعضاءها يمثلون الشعب فهم نواب الشعب. وكيف يأتى نواب الشعب المنتخبون هؤلاء؟ وهنا ينبغى التمييز بين هيئتين تمثيليتين لهذه الانتخابات: هيئة تمثيلية قاعدية واسعة وهيئة تمثيلية عليا ضيقة تنتخبها الهيئة الأولى. وتتألف الهيئة الأولى من مجموع الناخبين الذين يأتون بطريقة “ديمقراطية للغاية” فى ظاهر الأمر، حيث يكفى بلوغ عمر بعينه للانتماء بصورة آلية إلى هيئة أو مجموع الناخبين. وهؤلاء ينتخبون أعضاء السلطة التشريعية، أىْ الپرلمان، وكل سلطة منتخبة أخرى بالطبع مثل رئيس الجمهورية. وتبدو هذه العملية الانتخابية ديمقراطية للغاية حيث يتحدد الناخبون بشرط بسيط للغاية هو بلوغ عمر بعينه (الثامنة عشرة فى مصر). فلماذا إذن تأتى الأغلبية الكاسحة الساحقة الماحقة دائما لتمثل مصالح الطبقة الحاكمة حتى مع وجود أقليات حزبية لا تنتمى إلى الحزب الحاكم بل حتى مع وجود أقلية من الأعضاء المدافعين عن مصالح الطبقات الشعبية؟ السبب فى هذا هو أنه تنتشر بين عشرات الملايين من الناخبين فى مصر (وفى غيرها بالطبع)، رغم انتمائهم إلى طبقات مختلفة، أيديولوچيات مختلفة ولكنْ تحت سيطرة الأيديولوچيا السائدة التى هى أيديولوچيا الطبقة الحاكمة. وهذه الأيديولوچيات وبالأخص الأيديولوچيا السائدة بالإضافة إلى الحالة المادية والتعليمية والثقافية والتسييسية للشعب وبالتالى للناخبين هى التى توجِّه جماهير الناخبين نحو التصويت ضد مصالحهم الطبقية الأساسية. والحقيقة أن سيطرة السلطة التنفيذية وحالة الشعب بتمكينهما للحكام من تزييف إرادته بكل الوسائل ومنها الأيديولوچيا السائدة والسيطرة الفكرية والتلاعب بالعقول والدعاية الانتخابية المسلَّحة بالمال والإعلام والرشاوى الاجتماعية بالأموال وبالوعود البراقة، ومنها وسيلة التزييف المباشر، هما السر وراء الطبيعة الطبقية لكل پرلمان؛ فهو على كل حال پرلمان الطبقة الحاكمة الذى تنظم عملية انتخابه مؤسسات وأجهزة السلطة التنفيذية بكل جبروت حيث لا تنبثق السلطة التشريعية من داخل السلطة التشريعية عن طريق آليات خاصة بها. ومن ناحية أخرى فإن هذه السلطة التشريعية التى جاءت بها السلطة التنفيذية تأتى منها القيادة الجديدة للسلطة التنفيذية من خلال تكليف رئيس الدولة للحزب الحاكم بتأليف الحكومة الجديدة التى تتولى إدارة البلاد وإدارة السلطة التشريعية القادرة على اقتراح القوانين التى تبصم عليها السلطة التشريعية فى أكثر الأحيان. وإذا كان هذا هو القانون العام فى المجتمعات الرأسمالية فى مراكزها الإمپريالية العالمية فإنه من باب أولى القانون الصارم العارى المكشوف فى البلدان التابعة المسماة بالنامية فى عالمنا الثالث أو بالأحرى فى عالمنا الآخر. ولهذا فإن كل تطلُّع إلى الديمقراطية من أعلى فى صميم بنيان الدولة ليس سوى أضغاث أحلام يتزيَّن بها الطامحون إلى السلطة الطامعون فيها أو فى خدمتها.
10: والاستنتاج الأساسى الذى يمكن استخلاصه من كل هذا هو أن الپرلمان المصرى هيئة ملحقة بالسلطة التنفيذية بعيدا تماما عن أن تكون “منفصلة أو متوازنة أو مستقلة”، فهو فى كل مراحل انتخابه وعمله صنيعة هذه السلطة وأداة طيعة من أدواتها وهو أيضا صنيعة الطبقة الحاكمة. ومن هنا فإن حقيقة السلطة التشريعية فى مصر لا تتطابق مطلقا مع أسطورتها فأغلب أعضائها ليسوا نوابا للشعب بل هم نواب للطبقة الحاكمة وللسلطة التنفيذية لدولتها. وإذا كانت هذه حقيقة عامة لكل سلطة تشريعية فى العالم بعيدا عن أسطورتها فإنها تنطبق أكثر من أىِّ دولة فى العالم على پرلمانات دول العالم الثالث. فالپرلمان المصرى إذن مجرد ملحق تشريعىّ للسلطة التنفيذية للدولة ومؤسساتها وأجهزتها ويتولى وظيفة وضع البصمة على اقتراحات تأتى من السلطة التنفيذية كقاعدة؛ أو كاستثناء من غيرها من أحزاب أو جهات أو أفراد ما دامت تتفق مع مصالح هذه السلطة وطبقتها الحاكمة. ومن الجلىّ أن أهمية الدستور أو القانون الأساسى الذى يمثل المرجعية لكل القوانين الأخرى والذى تقوم بوضعه جمعية تأسيسية صنيعة للسلطة التنفيذية والطبقة الحاكمة وتُقرُّه هيئة من الناخبين ترتبط طبيعتهم بالحالة السياسية والفكرية والاجتماعية للشعب، وهى حالة تسودها متلازمة الفقر والجهل والمرض بكل نتائجها السياسية والانتخابية، كما سبق ورأينا، ترتبط ارتباطا كاملا بهذه السلطة التشريعية التى هى مجرد مكتب تشريعى ملحق بالسلطة التنفيذية فلا قيمة لها فى حد ذاتها. فما أعجب كل هذا الاهتمام بالدستور والاستفتاء عليه وبالپرلمان من جانب القوى السياسية فى مصر، ومتى؟ فى زمن الثورة. وللقوى السياسية أن تهتم عن كل حق بانتخابات السلطة التنفيذية لأنها سلطة حقيقية مهما كانت سلطة لدولة الطبقة الحاكمة والأداة الأساسية الفاعلة لهذه الطبقة.
11: وتختلف السلطة القضائية كذلك عن السلطة التشريعية. ذلك أن السلطة القضائية سلطة حقيقية ما لم تنجح دولة إدماجية كورپوراتية مثل دول مختلف أنواع الفاشيات أو الدولة الدينية فى تسييسها وإخضاعها إلى حدود قصوى للسلطة التنفيذية. وبالطبع فإن السلطة القضائية تحكم فى محاكمها العادية والعسكرية والاستثنائية مثل محاكم أمن الدولة وفقا للقوانين التى تُصدرها السلطة التنفيذية عبر مكتبها التشريعى الملحق بمؤسساتها وأجهزتها، وعلى أساس الأدلة التى تجمعها أو تلفِّقها الأجهزة الأمنية والإدارية للسلطة التنفيذية للنيابة العامة أو الإدارية أو العسكرية التى تتقدم إلى القضاء بقرارات الاتهام، وعلى القدرة القانونية وغير القانونية للمحامين أيضا فى مجال إثبات الاتهام كما فى مجال نفيه. وتتناسب عدالة السلطة القضائية طرديا مع عدالة القوانين ومع صدق الأدلة وتتناسب عكسيا مع المحتوى غير العادل للقوانين ومع تلفيق الأدلة، كما تتوقف عدالة القضاء والقضاة على الطبيعة السياسية أو الجنائية العادية للدعاوى القضائية وطبيعة الانتماء الطبقى للأطراف المتقاضية التى لا تتساوى مواقف القوانين منها لأن هذه القوانين إنما تضعها الطبقة الحاكمة وفقا لمصالحها. ومع كل هذا فإن المرونة النسبية التى توفرها القوانين من ناحية وأدلة الإثبات والنفى من الناحية الأخرى للقضاة واعتماد أحكامهم على إملاءات ضمائرهم كلما تحررت السلطة القضائية دستوريا أو عمليا من إملاءات السلطة التنفيذية وكلما كانت التقاضى بين متقاضين متساوين نسبيا أىْ بين أغنياء وأغنياء أو بين فقراء وفقراء بعيدا عن نفوذ الأغنياء وقدرتهم فى التقاضى ضد الفقراء الذين يظل كثير منهم خارج دائرة القضاء بحكم عجزهم عن دفع تكلفة التقاضى أو تحمُّل مختلف أعبائه أمام نفوذ وسطوة وسلطة الطرف الآخر.
12: وبحكم الخصوصية النوعية للسلطة القضائية، حيث يتمثل مجالها فى العدل والضمير والقانون، فإنها تميل إلى تعزيز استقلالها، ولهذا تعرَّضت لمذابح القضاء المتكررة الشهيرة فى مختلف العهود السابقة فى مصر، وبالطبع فى غيرها. وتقلّ مذابح القضاء فى بلدان الديمقراطية الپرچوازية فى الغرب أو الشمال، مع أنها تتناسب طردا مع سيطرة الاتجاهات الفاشية التى تقوم على حكم الإرهاب وليس على حكم القانون، غير أن الطبيعة الطبقية الرأسمالية للسلطة القضائية فى بلدان الديمقراطية الپرچوازية تحكمها طبيعة القوانين التى تضعها الطبقة الحاكمة حتى فى تلك البلدان من خلال سلطاتها التشريعية التابعة. ومن خلال الطابع الطبقى العام لهذه القوانين تظل السلطة القضائية محكومة بمصالح الطبقة الحاكمة والحكام والأغنياء بصورة عامة فى البلدان الرأسمالية المتقدمة وبصورة خاصة وبمقاييس أكبر وأفظع فى بلدان الرأسمالية التابعة ومنها مصر. ولا شك فى أن الاستقلال النسبى للسلطة القضائية أفضل للشعب ويمثل دعامة من دعائم الديمقراطية الشعبية من أسفل وبالتالى فإنه أداة من أدوات تطور الحياة السياسية بصورة متواصلة فى اتجاه الديمقراطية. ورغم هذا، ورغم تشدُّق الجميع بشعارات استقلال القضاء الذى لا يمكن بدونه تصوُّر أىّ درجة من درجات تطهير القضاء من الفساد والتسييس والتبعية للسلطة التنفيذية، فعندما وقفت السلطة القضائية بكل قطاعاتها وقفة عظمى منذ أسابيع طويلة فى سبيل استقلالها، وبوسائل نضالية بالغة التماسك والقوة والتصعيد مثل رفض الإعلان الدستورى ومشروع الدستور اللذين يمثلان عدوانا شرسا على استقلالها وبالتالى رفض الإشراف على الاستفتاء، بالإضافة إلى تعطيل العمل فى المحاكم والنيابات باستثناءات محدَّدة، خذلتها القوى السياسية التى تتزعمها جبهة الإنقاذ الوطنى وكذلك القوى الثورية واليسارية والتقدمية بالمشاركة فى الاستفتاء الإخوانى على الدستور الإخوانى لانتخاب الپرلمان الإخوانى فى سياق أخونة شاملة للدولة والمجتمع، وخذلت على وجه الخصوص الحركة الثورية الجماهيرية التى تجاوزت الجبهة المذكورة فقد طالبت الحركة بإسقاط النظام وحكم المرشد ورحيل الرئيس مع كل الآفاق المفتوحة بعد ذلك أمام الثورة فيما وضع زعماء الجبهة سقفا مهدرا ومحبطا لحركة الجماهير ولنضال القضاة فى آن واحد يتمثل فى المشاركة فى الاستفتاء بالتصويت ب “لا”، رغم إهدار كل شروط النزاهة النسبية فى عملية الاستفتاء. ولا شك فن أن مقاطعة الاستفتاء والمشاركة فيها بالتصويت ب “لا” تشتركان فى موقف أساسى هو رفض مشروع الدستور وكامل إطاره غير الشرعى ومع هذا فإن نقدهما المتبادل آلية ضرورية للوصول إلى التاكتيكات السياسية السليمة التى يتبغى الالتزام بها فى المستقبل.
13: ورغم شراسة الهجوم السياسى و”العسكرى” من جانب الإخوان المسلمين والإسلام السياسى بمختلف فصائله، ما يزال زعماء الإنقاذ الوطنى يتغنون بأن الإخوان المسلمين عنصر من العناصر المكوِّنة لنسيج الجماعة الوطنية المصرية. والمدهش أن المسوِّغات الوحيدة ل “وطنية” الإخوان المسلمين والإسلام السياسى لا تتمثل فى نضال استقلالى وديمقراطى قاموا به بل فى سجنهم واعتقالهم وتعذيبهم على أيدى أجهزة أمنية شرسة فى عهود رئاسية متعاقبة اعتمدت الحل الأمنى بعيدا عن الحل الديمقراطى الذى دمر انقلاب 1952 العسكرى حرياته النسبية التى كان الشعب المصرى قد انتزعها من سلطة الاحتلال والملك وطبقة كبار ملاك الأرض بفضل ثورة 1919 ودستور 1923.
14: على أن الموقف الحالى قد تجاوز كل التفاصيل الدستورية والاستفتائية والانتخابية التى يريد الإخوان المسلمون من خلالها إضافة مجرد ملحق تشريعى إخوانى إلى السلطة التنفيذية على طريق الدولة الدينية أىْ الدولة الإسلامية المنشودة من جانبهم، وفقا لدستورهم بل بما يتجاوز دستورهم الجديد بما لا يقاس. فقد تجاوز الموقف الحالى كل هذه التفاصيل إلى مواجهة كبرى قاد الإسلام السياسى مصر إليها مع خصوم سياسيِّين نجح بجدارة فى تحويلهم خلال أشهر معدودة إلى أعداء ألداء له يقاومونه الآن فى كل مكان فى مصر. كما وصل بنا الحكم الإخوانى، الذى جاء به الحكم العسكرى الإخوانى، إلى حافة الانهيار الاقتصادى والصراع السياسى الذى ينطوى على خطر الصدام العسكرى الذى ينطوى بدوره على احتمال التطور المتدحرج إلى حرب أهلية مدمرة صار لا يمكن استبعادها مهما كان هناك أمل فى تفاديها. ويتواصل تحذيرنا من خطر حرب أهلية محتملة منذ أكثر من عام غير أن الإسلام السياسى، بسلوكه الذى كان متوقعا على كل حال، يحوِّل ذلك الخطر إلى احتمال مباشر لا يمكن تفادى طرحه للنقاش مع أن مجرد الإشارة إليه كابوس حقيقى.
15: وفى سياق صدام سياسى جماهيرى بالمليونيات صار شعار الثوار فيه إسقاط حكم المرشد، وصار من الواضح فيه أن الثورة ضد حكم الإخوان والسلفيِّين لم تَعُد تقتصر على القوى الثورية بل تشمل، بعيدا بالطبع عن كل تحالف مرفوض قطعا، قوى الثورة المضادة التى تنتمى إلى القطاعات غير الإسلاموية من الطبقة الحاكمة بما فى ذلك أجهزة السلطة التنفيذية. ويشارك فى هذه الثورة ضد حكم الإخوان والسلفيِّين الجانب الأكبر من أعضاء السلطة القضائية دفاعا عن استقلالها فى المحل الأول حيث يبدو أن التعايش مع النظام الإخوانى صار أقرب إلى المستحيل. أما المعسكر الإسلامى فلم تقتصر مقاومته لهذه الثورة ضد حكمه على المليونيات بل اتخذ طابعا خطيرا عندما وصل إلى حد العنف المباشر فى التعامل مع الثوار السلميِّين وتنظيم مذابح للثوار تمثلَ أخطرها فى مذبحة محيط الاتحادية أىْ القصر الرئاسى الجمهورى ذاته وعلم رئيس الجمهورية ذاته، وصارت الممارسة السياسية الرئاسية ذاتها تتميز بالعنف المتحدى الذى صار يتميز بمحاكاة المنطق الساداتى بصدماته الكهربائية الذى يخالف فيه رئيس الجمهورية القانون بصورة متواصلة بإعلاناته غير الدستورية وقراراته التى تتحدى الجميع مثل مواصلة أعمال الجمعية التأسيسية وطرح مشروع دستورها للاستفتاء العام ضاربة عرض الحائط بالاعتراض والاحتجاج على أوسع نطاق، متسلحا بصورة مباشرة بالتدخل المباشر لقيادات جماعة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة إلى جانب رئيس الجمهورية بمليونيات الإخوان والسلفيِّين ومذابحهم وحصارهم الإجرامى للمحكمة الدستورية العليا وللإعلام فى شخص مدينة الإنتاج الإعلامى واعتداءاتهم على مظاهرات واعتصامات فى القاهرة والإسكندرية والمحلة الكبرى وغيرها فى محافظات عديدة وعلى صحف حزبية ومستقلة عديدة، ولم يكن “الحازمون” وحدهم أبطال هذه الجرائم حيث كانت الكفة الراجحة فى ارتكاب هذه الجرائم وبالأخص المذابح هى كفة الإخوان المسلمين بالذات.
16: ولم يَعُد يخفى حتى على الإخوان المسلمين أنفسهم واقع أن صدام الإسلام السياسى بمختلف فصائله صار مع الجميع؛ مع الشعب ومع الثورة ومع القطاعات الأخرى للثورة المضادة، ويدفع هذا الواقع الإخوان المسلمين إلى موقف غاية فى الصعوبة حيث يتضح لهم أن حكمهم صار آيلا للسقوط وأن هذا السقوط سيكون انهيارا شاملا للإسلام السياسى قد يؤدى إلى هلاكهم الذى يمكن أن يكون على أيدى حلفائهم السابقين الذين صاروا مستعدين للمواجهة الشرسة حتى النهاية. وربما لاح أمل فى أن ينقذ الإخوان المسلمون أنفسهم ومستقبل وجودهم فى مصر فى المستقبل كأحزاب أو جماعة بنوع من الخروج الآمن السلس عن طريق مسرحية تداول ديمقراطى للسلطة من خلال تغيير انقلابى مفاجئ للاتجاه؛ على سبيل المثال عن طريق انتخاب رئيس جديد للجمهورية بمناسبة إقرار الدستور الجديد مثلا بحيث لا ترشح جماعة الإخوان المسلمين وباقى جماعات الإسلام السياسى مرشحا أو مرشحِين للانتخابات الرئاسية، أو عن طريق توزيع أدوار يقوم فيه شباب الإخوان مثلا بانقلاب تحت الإشراف الخفى لقادتهم بطريقة تُيسر هذا التغيير الكامل للاتجاه، غير أنهم يندفعون بدلا من ذلك فى عملية هروب إلى الأمام على أمل أن يصاب الفعل الثورى الجماهيرى الراهن بالإرهاق إلى حد اليأس فى حالة صمود أطول للإسلام السياسى. وربما يعنى هذا أن الإخوان المسلمين لم يعودوا يفكرون فى أىّ نوع من التراجع لإنقاذ مستقبلهم بل تدفعهم إنجازاتهم السياسية فى مجال الأخونة والأسلمة إلى طريق بالغ الخطورة على مستقبلهم فى المحل الأول وعلى الجميع على كل حال. وكما قال لى مناضل صديق ثاقب الفكر وعميق التحليل أمس أو أول من أمس، كما يقال، فإن هذا التراجع صار أشبه بالمستحيل على الإخوان المسلمين لأن الاحتمال الكبير لخطر الانتقام الواسع النطاق ضدهم صار يرعبهم فلم يعودوا يملكون إلا هذا الهروب إلى الأمام. على أن هذا الهروب إلى الأمام يهددهم فى نهاية الأمر بخسائر أفدح قد لا تقوم لهم بعدها قائمة.
17: ولا يمكن لأحد أن يحسب دون أخطاء محتملة حسابات أبعاد حرب أهلية فى مصر غير أنه يظل من الممكن الحديث عن بعض أبعاد مثل هذه الحرب التى ينبغى أن نستميت فى سبيل تفاديها. وأذكِّر فقط بما أشرتُ إليه من قبل غير مرة من أن الحرب الأهلية إنما تكون بحكم مفهومها بين السلطة والشعب أو قطاع من الشعب فليست فى المحل الأول حربا بين طائفتين دينيتين أو بين مذهبين من نفس الديانة أو بين إثنيتين أو قوميتين فى البلد الواحد. وقد تصل التناقضات داخل طبقة حاكمة إلى حد حلها عن طريق وسائل الحرب الأهلية كما يحدث عند صعود الفاشية وإعادة تشكيل الاقتصاد والطبقة الحاكمة عند حدوث ثورات تتزعمها أو تسرقها قطاعات من الطبقة الحاكمة ضد قطاعات أخرى أو عند حدوث انقلابات عسكرية تدخل على الفور أو بالتدريج فى مواجهة شاملة عنيفة ضد الطبقة الحاكمة القائمة؛ ويمكن تفسير الحرب الأهلية الأمريكية (1961-1964) فى هذا الإطار بالذات. وما يهمنا الآن هو أن أىّ حرب أهلية محتملة فى مصر، نعوذ بكل أنواع التعاويذ من شرورها وويلاتها وأهوالها، لن تكون مثل حرب سوريا أو حرب ليبيا التى هى حرب سلطة الدولة ضد الشعب لأن الحرب هنا، واللعنة على مَنْ أشعلها، ستكون بين القطاعات الحاسمة للطبقة الحاكمة والإخوان المسلمين على رأس الإسلام السياسى وليس مع كل الشعب. ولأن المعسكر الأول يملك القوة المادية والعسكرية ويعرف خريطة قيادات معسكر الإسلام السياسى بالتفصيل تقريبا فإنها يمكن أن تكون حربا قصيرة مهما كانت دموية. وأعتقد أن الإسلام السياسى الذى أوصل البلاد بغبائه وتحجُّره ورعونته إلى حافة الحرب الأهلية ما يزال يملك فرصة انسحاب منظَّم سريع من السلطة لأن خسائره فى حرب ستكون أفدح بما لا يقاس من خسائره فى حالة انسحاب سياسى ذكى.
18: ورغم أن القوى الحقيقية للثورة تؤيد تفادى كابوس فاشية الدولة الدينية فى شكل جمهورية مصر الإسلامية بكل الوسائل الثورية الجماهيرية فإنها لا يمكن أن تحبِّذ حربا أهلية فى مصر الآن لأنها مهما كان من شأنها أن تستأصل الدولة الدينية فإنها بكل ويلاتها وأهوالها الهائلة لا تبشر بنظام ديمقراطى لاحق بل باستعادة محتملة لاستقرار الرأسمالية التابعة مع مضاعفة كل استغلالها واستبدادها الطبقيَّيْن وبكل ويلات هذا الاستقرار على جثة الثورة التى ما تزال متواصلة بكل حيوية على كل حال. ولا انتصار للثورة الراهنة إلا بتحقيق ثمرتها الناضجة الوحيدة فى كل ثورة مماثلة وهى الديمقراطية الشعبية من أسفل التى لا يمكن انتزاعها إلا فى مجرى ثورة سياسية شعبية وبالوسائل الفعالة للفعل الثورى المتواصل. وعلى القوى الثورية المخلصة إلى النهاية أن تعمل على انتزاع جمهورية پرلمانية (ليست رئاسية) على أن تكون جمهورية ديمقراطية بمعنى تحقيق الديمقراطية الشعبية من أسفل بكل شروطها الاجتماعية والاقتصادية وحقوقها وحرياتها التى أسهبتُ الحديث عنها فى غير هذا المكان. وليسقط حكم المرشد لتحل محله الجمهورية الپرلمانية الديمقراطية فى الأمد القريب لتقدِّم أوضاعا اجتماعية واقتصادية وسياسية أفضل لحياة الشعب المصرى، وتحسينا جذريا للدفاع عن هذه الحياة الديمقراطية سياسيا وااقتصاديا واجتماعيا وتطويرها بصورة متواصلة، وشروطا أفضل للنضال التاريخى الطويل الأجل فى سبيل المجتمع اللاطبقى حيث يبدأ التاريخ الحقيقى للإنسان باعتبار أن ما سُمِّىَ دائما بالتاريخ ليس في الحقيقة سوى ما قبل تاريخ الإنسان. ومرة أخرى ومرات أخرى سترتفع الأصوات عاليا: الشعب يريد إسقاط النظام، ويسقط حكم المرشد، ولْيرحل رئيس الجمهورية الذى لم يحقق سوى هذا الإنجاز السلبى الرهيب المتمثل فى انقسام الشعب المصرى والمجتمع المصرى بصورة تنطوى على خطر الحرب الأهلية.
22 ديسمبر 2012