صفحات سورية

السلطة في سوريا والربيع العربي: أي قرار؟

حبيب عيسى

لا بدّ في البدء من التدقيق في الآلية التي تعاملت وتتعامل بموجبها الأطراف المتداخلة على الساحة السورية مع تداعيات «الربيع العربي» السؤال الأول: كيف، وبأية آليات تعاملت السلطة في سوريا مع تداعيات «الربيع العربي»، أين نجحت، وأين كان الفشل، وما هي الفرص الضائعة، وهل مازال هناك من مخرج؟

لا بد من الإقرار بداية بصعوبة الركون إلى إجابة قاطعة على هذا السؤال، ذلك أن الغموض غالباً ما يحيط بالخيارات التي يضعها صاحب القرار في الأنظمة الشمولية على الطاولة، وما هي العوامل التي تؤثر على منطوق القرار، ومن يشاركه في اتخاذ القرار، وما هي العوامل الموضوعية الداخلية والخارجية التي ترجّح كفة أحد الخيارات على سواه، لكن الأهم من ذلك كله هو الغائية الأساسية التي يضعها صاحب القرار، والتي يجب أن يكون القرار في خدمتها، هل هي غائية وطنية؟ هل هي غائية عقائدية؟ هل هي غائية سلطوية تتعلق باحتكار جماعة، ما، للسلطة؟ هل هي غائية سلطوية فردية؟

إن الإحاطة بهذه القضايا هي المدخل الذي لا بد منه لتحديد الجواب على السؤال: هل كان صاحب القرار مصيباً أم لا؟ هل كانت لديه فرص أخرى وأوضاعها؟ هل هناك مشكلة في إحاطة صاحب القرار بالمشكلة؟ هل هناك مشكلة في مصادر المعلومات لديه؟ هل تم استجراره لفخ؟ هل هناك مشكلة بكفاءة الدائرة المحيطة بصاحب القرار، أم أن الخيارات الأخرى كلها والتي كانت أمامه مرفوضة أو غير متاحة ولم يكن أمامه إلا الخيار الوحيد الذي اتخذ القرار في سياقه؟

وفي ظل غياب المعلومات الدقيقة وفي ظل غياب الشفافية ليس أمام الباحث إلا افتراض الاحتمالات التي كانت متاحة أمام صاحب القرار لاتخاذ قرارات مختلفة لكنه استبعدها، واتخذ القرار المناقض.

من الثابت، وغير المذكور من أحد أن رياح «الربيع العربي» لم تدق أبواب دمشق فجأة، وإنما أرسلت إنذارات متلاحقة أنها قادمة لا محالة، وكانت الأشهر الخمسة التي استغرقتها رحلة تلك الرياح من تونس إلى دمشق وما رافقها من عواصف في الطريق إليها كافية لاتخاذ القرار المناسب لمواجهتها والتراجع عن التقدير الخطأ الذي يقول: ان سوريا ليست تونس، وليست…، وبالتالي لا يمكن الاحتجاج بعنصر المفاجأة وبالفعل، على ما يبدو، تم الاستعداد للمواجهة، وحُسم الأمر لمصلحة القرار بالمواجهة الاستباقية، لمنع أي تجمع جماهيري واسع في أي ميدان من ميادين المدن، مهما كان الثمن، والمبالغة منذ اللحظة الأولى في استخدام العنف المفرط لملاحقة المظاهرات حتى في الزواريب الضيقة، بل وضربها حتى قبل أن تنطلق، حفاظاً على هيبة السلطة التي سيؤدي أي مساس فيها إلى انهيارها وهذا يعني أنه لا مجال للتنازل أو للتغيير الجدي في هيكلية السلطة، لأن ذلك سيعتبر ضعفاً يجر ما بعده، فالقضية الأساسية هي وجود السلطة من عدمه، وبالتالي لا مجال للمساومة ولا بد من حشد الطاقات الأمنية والعسكرية ووسائل القوة وزجها في المعركة إضافة إلى اختيار عناوين سياسية للمواجهة تطوّرت من مواجهة: مندسين إلى مسلحين إلى طائفيين إلى إرهابيين محليين إلى إرهابيين عرب ودوليين إلى تكفيريين إلى مؤامرة دولية؛ وبالتالي يجب حشد الإمكانيات المادية والبشرية والعلاقات الإقليمية والدولية كافة في هذه المعركة، واتخاذ الإجراءات كافة لصد تلك الرياح الربيعية العربية بكل السبل والوسائل، فالمساس بهيبة السلطة هو الخط الأحمر الوحيد.

ولعل القرار بهذا الشأن اعتمد على معطيات محددة تمّ استخلاصها من دروس «الربيع العربي» رجّحت المبادرة لاستخدام العنف منذ اللحظة الأولى، وحتى في ضربات استباقية، حيث نتوقع أن قراءة الأجهزة الأمنية «للربيع العربي»، كانت كما يلي:

1 ـ زين العابدين بن علي تردّد في الزجّ بالقوات المسلحة منذ اللحظة الأولى لقمع الثوار، وعندما قرر كان قد فات الأوان فاضطر للهرب.

2 ـ حسني مبارك تأخّر في استخدام قوات النخبة من الحرس الجمهوري في تحرير ميدان التحرير فاضطر لتقديم استقالته…

3 ـ معمر القذافي تأخّر في تحرير بنغازي من الثوار وعندما قرر كان قد فات الأوان. صحيح أنه استخدم كل ما يملك من قوة بعد ذلك وحتى آخر لحظة، وصحيح أيضاً أنه رفع عناوين مهمة لمعركته من أول المؤامرة الكونية، إلى أنه يحمي العالم المتحضر من الإرهاب، وأن ليبيا بعده ستتحوّل إلى إمارات للمتطرفين، وأن العالم سيخسر النفط الليبي، بل ان سقوط نظامه سيؤدي إلى غزو الأفارقة للقارة الأوروبية وستصبح سوداء، والأهم من ذلك أن سقوط نظامه سيهدّد أمن «إسرائيل»، وقد فصّل سيف الإسلام القذافي ذلك كله. لكن القذافي فشل في إيجاد حلف دولي يدافع عن نظامه بجدية، فقد تخلى عنه حتى أولئك الذين كان يغدق عليهم من أموال الشعب الليبي، فانتهى به الأمر إلى النهاية المعروفة…

لكن هناك دروساً أخرى مختلفة يمكن استخلاصها من تداعيات الربيع العربي:

1 ـ البشير في السودان نجح في تحويل المعركة في السودان إلى معركة عنصرية ودينية، صحيح أن النتيجة كانت تقسيم السودان وتهديد ما تبقى منه لتقسيم جديد، لكنه مازال يرقص بالعصا في الخرطوم على أية حال…

2 ـ علي عبد الله صالح تردّد في استخدام العنف المفرط، لكنه كان مازال حاكماً لليمن عندما بدأ «الربيع العربي» يدق أبواب دمشق إنما هذا التردد أودى به في النهاية…

3 ـ الجزيرة العربية كانت على موعد مع «الربيع العربي» بالتزامن مع دمشق فقد كان تم الترتيب لانطلاقة الثورة من الرياض في 11/3/2011 أي قبل أربعة أيام فقط من الموعد المضروب بدمشق، لكن تم الالتفاف على الثورة في الجزيرة العربية بتحريك صراعات مذهبية في شرقي المملكة قبل يوم واحد من الموعد، فتم إجهاض الثورة وتبع ذلك صرف المليارات على شكل مساعدات…

4 ـ البحرين تمكن الملك من حرف مسار الثورة، من ثورة على العائلة الحاكمة، إلى فتنة مذهبية، فصمدت العائلة في قصورها. فالأنظمة الاستبدادية تتغذى على الحروب الأهلية ولا تسقط بالحروب الأهلية…

5 ـ تم تكرار اللعبة المذهبية في العراق وإجهاض الربيع العربي هناك…

6 ـ تجربة المغرب كانت مختلفة حيث استخدم الملك أسلوب الحرب الاستباقية لكن ليس باستخدام العنف، وإنما بتلبية المطالب، فكان الملك كلما اجتمعت القوى الوطنية لتحديد يوم للتظاهر من أجل مطالب معينة، يقوم بإصدار مراسيم ملكية بتحقيق تلك المطالب قبل المواعيد المضروبة للتظاهر، وهكذا تفتقد تلك الدعوات للتظاهر مبررات حدوثها. لكن الأجهزة الأمنية ترى أن ذلك لا يصلح في سوريا فقد يوحي بالضعف.

7 ـ تجارب الجزائر والأردن وموريتانيا كانت متقاربة من حيث تلبية المطالب ونزع فتيل الثورة.

هكذا كان المشهد في الوطن العربي عندما بدأت رياح «الربيع العربي» تدق أبواب دمشق في الوقت الذي بدأت فيه القوى المتضررة من «الربيع العربي» في الداخل العربي وفي المحيط الإقليمي وعلى امتداد العالم تستعيد أنفاسها من جراء الصدمة التي أحدثها، وباشرت هجوماً مضاداً بالتآمر على «الربيع العربي»، وليس على الأنظمة التي كانت مخلب قط المؤامرة على امتداد نصف القرن الأخير. وهكذا بدأ الاصطفاف من جانب الأنظمة العربية ـ حتى تلك التي من المفترض ان «الربيع العربي» حرّرها ـ والقوى الإقليمية والدولية يأخذ أبعاداً جديدة من التدخل السافر، وهكذا كان، واستناداً على كل تلك المعطيات اعتماد الحل الأمني وكل ما يتوفر من القوة ووسائل العنف من دون حدود. لقد تم تدمير سوريا موضوعياً، فهل ستنتصر السلطة وتثبت ان قرارها كان صائباً في الحفاظ على السلطة؟

وإذا كانت تلك رؤية السلطة وقرارها، فما هي رؤية المعارضات التقليدية في سوريا، وكيف تعاملت مع تداعيات «الربيع العربي»؟ ربما سنتمكن من الحديث عنها بحرية أكبر باعتبار أنها ليست سلطة… وربما كان وضعها أكثر خطورة…

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى