صفحات العالم

السلطة كآلة قتل


ماجد كيالي

كأنها آلة قتل تلك التي تشتغل، كأنها آلة قتل صماء عمياء تلك التي تتنقّل، بلا أي احساس أو مشاعر بشرية، مستبيحة البشر والحجر، معمّمة الموت والخراب، في سوريا، من حلب وإعزاز وإدلب ودير الزور والبوكمال إلى درعا والحراك، مرورا بحمص والقصير وتلبيسة وحماه والمعرة والرستن وبانياس، ودوما والزبداني والقابون والمزة وبرزة والتضامن والحجر الأسود وكفر سوسة والمعضمية في دمشق.

لاتكتفي آلة القتل هذه بمجرد القتل عن بعد، لكأنها لا ترتوي من ذلك، أو كأن ذلك لايشبع وحشيتها، فتذهب نحو قتل ضحيتها والتمثيل به، كما حصل قبل ايام في المجزرة الدامية في داريا (جنوبي دمشق)، وقبلها في مجازر التريمسة والقبير والحولة والسيدة زينب وزملكا وجسر الشغور وكفر عيويد.

والحال لايمكن فهم هذا القتل إلا بتجرّد القاتل من إنسانيته فهذا قتل لا معنى سياسياً له، فهو لايستهدف ردع الخصم، أو تخويفه، أو هزيمته، هذا قتل محض، يقتل فيه القاتل الإنسان في جسمه، ويقتل فيه الروح من جسم ضحيته، التي تسلّم بعجزها. والمعنى ان هذه مقتلة عبثية لا منتصر فيها، فلا القاتل قادر على اشهار انتصاره على المقتول، ولا المقتول باستطاعته اشهار هزيمته امام القاتل.

وفي الواقع فإنه يمكن إحالة هذه المقتلة المتنقلة على معان كثيرة في آن، فاشية واستعمارية وبدائية، وباعتبارها جزءاً من متطلّبات تأبيد السلطة المطلقة وحاجات الثورة المضادة (على ماطرح الزميل وسام سعادة في مادته عن «العنف البعثي الأسدي» في «المستقبل»، 27/8)، رغم أنها تأتي في لحظة فوات تاريخي بالنسبة إلى كل هذه المعاني. لكن الأنكى من كل ذلك أن هذه المقتلة تحدث على خلاف كل الأعراف، وكل التجارب، وكل تلك المعاني، فهنا ثمة سلطة تمعن قتلاً في شعبها، وهذه من الحوادث النادرة وغير المسبوقة في تاريخ المجتمعات البشرية، ولاسيما في العصور الحديثة، رغم كل ما لاقته بعض هذه المجتمعات من ويلات الاستبداد.

مثلا، وفي حسبة للحوادث التاريخية التي شهدت أهوالا كهذه، بعد الحرب العالمية الثانية، يمكننا ملاحظة ان عدد ضحايا «داريا» يقارب ضحايا مجزرة «ماي لاي» في فيتنام، التي ارتكبتها القوات الامريكية (1968)، حيث قام قائد وحدة عسكرية بتطويق القرية وجمع القرويين العزل وأمر بإضرام النار في بيوتهم وقتل كافة السكان، ما أدى إلى مصرع 300 ـ 500 منهم.

وكان مسلمو البوسنة عانوا أهوالاً كهذه، مجازر وتشريداً وتخريباً، جراء الحرب التي شنها الصرب والكروات عليهم في النصف الأول من التسعينيات، حيث بلغ عدد ضحايا هذه الحرب نحو 100 الف. كما عانى مثلها مسلمو الشيشان، الذين شنت روسيا عليهم حربا مدمرة، لاخماد نزعتهم الاستقلالية، ما أدى إلى مصرع عشرات الألوف منهم، أغلبهم قضى بنتيجة القصف من البر والجو.

وثمة تشابه بين ما يجري، من جهة درجة العنف، مع مالاقاه شعب الجزائر في الحقبة الأخيرة من الاستعمار الاستيطاني الفرنسي، حيث قامت القوات الفرنسية، بأسلحتها البرية والجوية والبحرية، بشن حرب وحشية ضد الجزائريين، مستخدمة استراتيجية الارض المحروقة، الأمر الذي تسبّب بخراب قرى ومدن وضحايا كثر.

وفي التجربة الفلسطينية يمكن إدراج حروب المخيمات في هذا السياق، وضمن ذلك مذبحة صبرا وشاتيلا (أيلول 1982) التي نفذتها قوات حزب الكتائب وجيش لبنان الجنوبي بالسلاح الأبيض، ونجم عنها مصرع 3000 من الفلسطينيين واللبنانيين في ثلاثة أيام. وهو ما كان حصل قبلاً في مخيم تل الزعتر، الذي حوصر من قبل قوات كتائبية، ووحدات خاصة سورية (1976)، وقد نجم عن ذلك تدمير المخيم وتشريد سكانه بعد قتل نحو 1000 منهم. ولاشك ان حرب حركة أمل ضد المخيمات في السنوات 1986ـ 1988، بدعم من النظام السوري، تنضوي في هذا الإطار بالوحشية التي تضمنتها.

أيضا، تأتي في هذا السياق المجازر التي تعمّدت القوات الصهيونية ارتكابها ضد الفلسطينيين إبان النكبة (1948)، والتي استهدفت ترويعهم وإزاحتهم من أرضهم، واجلائهم عن وطنهم، وقد نجم عنها مصرع 4ـ 5 آلاف منهم، وضمنها مجازر: دير ياسين مع 254 شهيداً (9/4/1948)، وهدار الكرمل (حيفا) مع 150 شهيدا (22/4/1948)، وبيت دارس (غزة) مع 260 شهيداً (21/05/1948)، والطنطورة مع 250 شهيداً (22/05/1948)، واللد مع 426 شهيداً (11/07/1948)، والدوايمة مع 580 شهيداً (29/10/1948).

ويتبين من التجارب السابقة ان كل درجة العنف هذه، والمتمثلة بالمجازر والتدمير والتشريد، كانت نتاج حالة حرب من دولة على دولة اخرى، أو من دولة على شعب اخر، أو من شعب على شعب اخر، وكلها كانت كناية عن حروب استعمارية، أو عن حروب تطهير عرقي أو ديني، أو كحالة مختلطة بين الاثنين، الأمر الذي يفترض انه لاينطبق على الحالة السورية، إلا في حال كانت السلطة، التي تشن هذه الحرب على شعبها، تتمثل هذا الوعي، أي وعي حالتها كسلطة محتلة، أو كنوع من سلطة عنصرية غاشمة، ولو انها لا تصرّح بذلك علناً.

ويتبين من كل ما يحدث ان السلطة السورية تتصرف على هذا النحو حقاً، إذ يلفت الانتباه أنها لا تبد أي حساسية أخلاقية (فما بالك بالناحية القانونية)، ولا اي مسؤولية، إزاء الضحايا الذين يسقطون، والذين بلغ تعدادهم نحو 25 ألفا، في عام ونصف، وهو عدد لم يسقط في كل الحروب العربية مع اسرائيل، فضلا عن انه عدد هائل في كل المعايير، لكأن هؤلاء ينتمون إلى شعب اخر؛ وهو ما ينطبق على لامبالاتها إزاء حاجات النازحين من مناطقهم إلى الداخل السوري.

وعموما فإن الاجهزة الإعلامية الخاضعة للنظام عبرت عن هذا الواقع بكل جرأة، أو بالأصح بكل وقاحة وحقارة، بإنكارها الضحايا، وبالتنكيل بهم، وبإذلالهم، عبر عرضهم على الفضاء العام من دون اي اعتبار، لكأنهم لايمتون لها بصلة. ويمكن أن نأخذ نموذجا على هذا في ذلك العرض بالغ الخسّة الذي قدمته احدى مذيعات قناة الدنيا، التي لم يرف لها جفن وهي تتنقل بين جثث شهداء مجزرة داريا، أو وهي تستجوب الضحايا وهم يستقبلون ملاك الموت، لكأنها توحدت مع آلة القتل الصماء العمياء، وهو المشهد الذي استفز المشاعر الانسانية لدى المشاهدين، ما استدعى هيثم حقي (المخرج المعروف) لطرح السؤال التالي: «هل كنا نعيش مع هؤلاء الوحوش ونتنفس الهواء نفسه وننتمي للبلد نفسه ولناسه الطيبين». أما ياسر علي فتحدث بمرارة عن هذا المشهد الإعلامي الفاشي المبتذل قائلا: «أحقر تعليق قرأته: «اليوم تبدأ داريا بالتعافي بعد استئصال السرطان المتفشي فيها من سنة ونصف. ونأسف لأرواح الضحايا الذين كانوا دروعاً بشرية».

لكن إرادة الحياة وروح الحرية عند السوريين تتواصل، رغم مجزرة داريا وما قبلها، ولعل هذا ماعنته رفيدة (من سكان برزة) بقولها: «وحياة الله القصف شغال وضرب رصاص على ابو موزة وانفجارات من كل حدب وصوب وانا نزلت على الجنينة وشطفتها وسقيتها بكل برودة اعصاب..وطز بكل شي ماعاد فارقة معي وهيّة موتة..خليني موت وانا منعنشة بالمي ومبسوطة على الزريعة يلّي رح تموت من العطش…يلعن ابو كل شي خلاّني أوصل لهون انه ما عاد فارقة معي شي حتى حياتي».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى