السلطة والدولة الأمنية: التباس كبير/ د. طيب تيزيني
أطلقت الحركات الاحتجاجية في العالم العربي منذ ثلاثة أعوام ونصف العام شعارات وآراء ومطالب متعددة، ولكن مندرجة في حقل تحرري حاسم، ويتحرك في أفق تعددي، كانت هنالك اختلافات بين بلد عربي وآخر فيما يتصل بالمصطلح الشهير الجامع «الربيع العربي»، فإذا تجاوزنا الخلافات التي نشأت على صعيد تلك الاختلافات بين النظم العربية من طرف، وبين الحركات الشعبية التي انطلقت من تونس أولاً قبل أن تأخذ في الامتداد إلى بلدان عربية أخرى من طرف آخر، فإننا سنضع يدنا على بعض السمات التي ظهرت غالبة على ردود فعل معظم البلدان العربية المنتفضة. ونستطيع أن نتبين ثلاثة شعارات هي: الحرية والكرامة والعدالة.
وكان رد فعل عدد من النظم عدم الاكتراث بتلك الشعارات، بل أكثر من ذلك، فهذه النظم ظهرت قريبة من التحرش بالجماهير الغاضبة والمخيّبة الآمال، هذا مع الإشارة إلى أن المسألة المتصلة بمطالب هذه الجماهير كان يمكن أن تجد آذاناً صاغية بقدر أو بآخر من قبل النظم العربية المعنية، كانت تلك الآذان غائبة أو مُغيّبة ربما قصداً أو رفضاً للتواضع أمام الشعب مع غياب العقلانية والحكمة، إلى حد القطيعة. لم يُكتشف أن عدم الاستجابة لتلك المطالب كانت خطأ بالغ الفحش، أولاً لأن النظم المعنية فرّطت بفرصة تاريخية كبرى لتحقيق بعض تلك المطالب، وهي محقة، فالإصلاح فضيلة عظمى بالأساس، وهو حين يحدث فإنه يأتي لصالح الجميع ولصالح الوطن أولاً وأخيراً، وثانياً قامت المظاهرات المطالبة بتلك المطالب على نحو سلمي حقاً. وحين تقوم هذه المظاهرات خصوصاً بطابعها السلمي، فإنها أولاً تكون قد انطلقت من الحقوق القانونية لمواطني البلد والمحمية من قبل الدستور، ومن طرف آخر، فإن ظهور التظاهر السلمي في الساحة من شأنه أن يبعث رسالة إلى السلطة في الداخل وأخرى إلى الخارج الدولي، يكون محتواها توافق الجمهور والسلطة مع مجموعة الحقوق الأساسية للمواطنين، بكلمة لم يكن هنالك مَن يكتشف ذلك في الداخل، فوجد نفسه في مواجهة مسلحة مؤلمة للجمهور وللجميع.
كان ذلك خطأ فاضحاً ودالاً على غياب الحياة السياسية الديموقراطية في البلد المعني. وما كان إلا القول الحاسم أن يظهر بالسلاح الناري: إن الحمولات التي برزت بعد ذلك ومع الرصاصة الأولى، ظلّت وراء الحدث تشحنه وتعمقه في مواجهة للحلول لوطنية والعقلانية والحكيمة القابل للتحقيق.
والحق، كان هنالك ما يعيق تلك الحلول ضمن السلطة نفسها، يعني بذلك «الدولة الأمنية» التي تكرست في الحياة العامة والخاصة، بحيث أصبح الوضع بحاجة إلى رؤية أكثر قرباً من الأحداث نفسها، وأكثر خبرة في الكشف عما وراء هذه الأحداث، تعني تلك «الدولة الأمنية»، التي تتجاوز «الدولة المدنية» نوعياً وعلى نحو شامل، هذا التمييز بين المصطلحين يضعنا في مستوى لا يكفي القول التالي لتغطية إشكاليته: يقول بول سالم: «في عملية الانتقال من السلطوية إلى الديموقراطية يبقى للجيش غالباً نفوذ كبير».
هذا الكلام يصح على بلدان عربية دون أخرى، ولكنه لا يصح على بلدان هيمنت فيها تلك الدول الأمنية، فحتى الجيش يُغيّب لصالح هذه الدولة. والأمن يصبح سيد الموقف، ولكن على أساس أن ينزرع في المجتمع كله وأن يتحول إلى المرجعية الأولى في مجموع المجتمع، هذا لاحظناه في تونس كما في سوريا، وإذا كان الأمر على هذا النحو، فإن تعميم المشكلات في العالم العربي لا يسمح بتجاوز ما في هذه الدولة العربية أو تلك من خصوصيات لا وجود لها في الدول الأخرى. لكن في العموم يمكن التحدث عن مشتركات بين دول العالم العربي، هذا إذا لم ننظر إلى هذه الأخيرة على أنها متماثلة. لكن حديثاً عن «ربيع عربي» يظل مشروعاً، خصوصاً إذا بقينا في حدود هيمنة ثلاثية «الاستبداد والفساد والإفساد في كل العالم، دون استثناء» أو حين نعود إلى تعريف «الدولة الأمنية» فنجد أنفسنا أمام قانون الاستبداد الرباعي المؤسس للاستئثار بالسلطة وبالثروة وبالإعلام وبالمرجعية المجتمعية السياسية القائمة على أن الحزب الشمولي هو الذي يقود الدولة، هنا يصبح هذا الأخير سيّد الأكوان وسرّها.
الاتحاد