السلطة واللامركزية في المدن العربية العثمانية: إعادة النظر في رؤية البيرت حوراني حول «سياسات الأعيان»/ محمد تركي الربيعو
خلال العقود القليلة الماضية، عمل عدد لا بأس به من الباحثين الغربيين والأتراك والعرب على إعادة النظر بتاريخ الحياة الاجتماعية في المدينة العربية العثمانية، عبر تفكيك ما يسمى بـ»نظرية الانحدار العثماني»؛ وهي نظرية تقول إنه نحو نهاية القرن السادس عشر، بعد زمن السلطان سليمان الأول القانوني 1520ـ 1566، دخلت الدولة العثمانية فترة انحدار لم تتعاف منها قط، على الرغم من المحاولات لتطبيق إصلاحات في القرن التاسع عشر. كما شهدت هذه المرحلة ـ وفقاً للنظرية ذاتهاـ تخلخلاً في قبضة السلطة العثمانية المركزية على أقاليمها، ما قلل من دوافع الولاة لتحسين ظروف المدن؛ وفي المقابل ازداد جشعهم في ظل عدم رقابة القصر السلطاني، وتجسد ذلك في فرض ضرائب أوسع على الناس والأسواق. أدت هذه الظروف – وفق السردية ذاتها – إلى ولادة دور لعدد من العائلات والوجهاء المحليين أو الأعيان، وفق تعبير المؤرخ البرت حوراني، الذين سيتحولون مع نهاية القرن الثامن عشر إلى ممارسة ما يشبه السيادة الكاملة في كثير من الولايات العثمانية.
وقد بقيت هذه السردية التقليدية للامركزية العثمانية وبروز دور الأعيان هي السائدة لفترات طويلة، وربما عادت لتفرض نفسها مرة ثانية، في ظل مشهد التفكك الذي يعيشه عدد من البلدان العربية بعيد الربيع العربي، الذي فقدت فيه الحكومات سيطرتها على الأطراف لصالح مجموعات ولاعبين محليين جدد.
وغالباً ما تستعيد القراءات الجديدة، في سياق دعم نظريتها حول ولادة فترة جديدة للأعيان، مشابهة لفترة الأعيان العثمانيين، ما كتبه المؤرخ البرت حوراني، الذي يعد أول من طرح هذا المصطلح في ورقة بحثية نُشِرت عام 1966 بعنوان «الإصلاح العثماني وسياسات الأعيان». وقد عرّف حوراني الوجهاء بأنهم «القادة الطبيعيون» للمجتمع العربي المحلي، الذين يؤلفون طبقة وسيطة بين الإدارة العثمانية وجمهور السكان عموماً؛ كما مال للتأكيد على استقلالية الأعيان عن الحكومة المركزية، كما لو لم يكن لها أي دور في تكوينهم. أما في ما يتعلق برسوخ الأعيان في الولايات، فقد أكّد حوراني ضمنياً على تعربهم أكثر من محليتهم، وقد مكّن ذلك قراء حوراني من وصف المجتمع العربي العثماني بكونه ثلاثي الأجزاء: الإدارة العثمانية جزء يتكون من الوالي المعين من إسطنبول وحاشيته، والقوات التي ربما رافقته من هناك، وينتمي لهذه المجموعة أيضاً قاضي قضاة الولاية وموظفون دينيون آخرون تعيّنهم إسطنبول، وكانت هذه الإدارة وفقاً لقراءة حوراني «تركية» أساساً ولهذا فهي غريبة، وأجنبية، ومحتلة، وإمبريالية، بما يتضمن كل المعاني السلبية؛ وهناك مجموعة أكبر تتكون من السكان «الأصليين» أي «الناس العاديين»، ومنهم الحرفيون والتجار في المدن، والفلاحون والبدو في الريف والبادية، فقد كان هؤلاء أساساً «عرباً»، أي السكان الأصليون الذين قطنوا مصر وسوريا والعراق لقرون، وراقبوا نظاماً أجنبياً محتلاً عقب نظام أجنبي محتل، يأتي ثم يغادر؛ وفي خانة مستقلة ثالثة يقف الأعيان، الذين قد يكونون سكاناً أصليين يتكلمون العربية أو مقيمين مستعربين طال مكوثهم، ولكنهم وسطاء بين «العامة» و»العثمانيين» وكان من الممكن نظرياً لفلاح أو مدني أن يصعد لمركز الوجاهة، ولكن الإدارة «التركية» كانت منفصلة أصلاً عن الصنفين الآخرين.
هذا التقسيم والتفسير الذي قدّمه حوراني، كان محل نقاشات ومراجعات عديدة، خاصة من قبل المؤرخين الغربيين الذين أخذوا يعيدون النظر بتقسيمات حوراني والأسس النظرية التي قام عليها نموذج حوراني، وأقصد هنا أساس الانحدار العثماني وصعود سلطة الوجهاء. وكمثال على هذه المراجعات يمكن أن نشير إلى كتاب «البلاد العربية في ظل الحكم العثماني 1516ـ 1800» للمؤرخة الأمريكية جين هاثاواي استاذة التاريخ في جامعة أوهايو، ترجمة محمد شعبان صوان، عن دار الروافد وابن النديم 2018.
إذ تروم المؤرخة في هذا الكتاب لإعادة النظر في تاريخ الدولة بعيد القرن السادس عشر، أو على صعيد علاقة السلطة بالمجتمع في القرن الثامن عشر، وعودة السلطة المركزية العثمانية لاحقاً إلى بعض المدن، كما في حال دمشق، خاصة بعيد أحداث 1860 ضد المسيحيين داخل المدينة، التي أتاحت للدولة العثمانية فرض الإصلاحات العثمانية بطريقة أكثر مركزية من السابق، وهو موضوع كان قد حظي أيضاً باهتمام وقراءة ماتعة من قبل المؤرخ زهير غزال في كتابه «الاقتصاد السياسي لدمشق في القرن التاسع عشر».
وترى هاثاواي أن التقسيم الذي طرحه بعض المؤرخين حول الانحدار العثماني وولادة اللامركزية – الذي بنى عليه حوراني لاحقاً نظريته حول الأعيان – يبقى تفسيراً عجولاً، كونه يقتضي خصاماً بين المسؤولين العثمانيين والأعيان المحليين، وهذا ما لم يكن واقعاً؛ فكثير من الأعيان كانت لهم روابط قوية بشخصيات نافذة في القصر واستفادوا مما يمكن أن نطلق عليه «اللامركزية في المركز»، أي ظهور جماعات مصالح متنافسة ومتعددة داخل القصر السلطاني نفسه. وفوق ذلك اختلفت درجة اللامركزية وطبيعة هؤلاء «الأعيان المحليين» من ولاية إلى أخرى، وحتى من منطقة إلى غيرها.
وترى أن التقسيـــم الذي طــــرحه حوراني تركي/عربي، هو تقسيم يفترض أن التوتر بين الجماعات القومية الناشئة التي ميّزت التاريخ العثماني المتأخر موجود في القرن الثامن عشر، كما أنه يحمل فروضاً قومية حديثة لا تنطبق على الماضي؛ ففي الواقع، لم تبق الطبقة الإدارية العثمانية منفصلة كلياً عن»السكان الأصليين»، فالملاك الوظيفي المرسل من إسطنبول إلى الولايات كان يتأقلم ويصبح محلياً بدرجة متفاوتة، فمرافق الوالي العثماني مثلاً قد يظل في الولاية بعد عودة الوالي إلى إسطنبول أو قد ينتقل إلى ولاية أخرى، وقد يؤسس لنفسه بيتاً بأتباع محليين في الولاية، وقد يتعلم اللغة المحلية، وكان هذا النمط أكثر حدوثاً في الولايات العربية منه في البلقان، لا سيما أن الموظفين العثمانيين عادة ما كانوا يعرفون قليلاً من اللغة العربية كونها جزءاً من تعليمهم الديني، كما كان الاحتمال الأكبر أن يضرب الجنود العثمانيون جذورهم في الولايات، إذ لم تكن الجيوش العثمانية احترافية بالمعنى الحديث، ومع أنها كانت تقطن الثكنات، فلم يكن الجنود يتدربون بانتظام طوال العام؛ ومع موجة التضخم التي بدأت في أواخر القرن السادس عشر، دفعهم ذلك للبحث عن مصادر دخل جديدة لإضافتها إلى دخولهم الثابتة، وبهذا اشتغل معظم الانكشارية في العواصم العربية، كما في إسطنبول بنوع من التجارة، وفي الواقع نما محيط من الانكشارية الحرفيين الذين يتكلمون التركية قرب سوق الخليلي في قاهرة القرن السابع عشر، وبهذا أصبح التحول إلى المحلية ليس مساوياً للتعرب بالضرورة، رغم أنه قد يتضمن تعلم وتبني اللغة والعادات المحلية الراسخة في الولاية، وهذا ما حصل غالباً لاسيما بين أعضاء الطبقة العسكرية الإدارية الذين ولدوا وتناسلوا في الولايات العربية، ومع ذلك فعموماً كان التحول إلى المحلية يتخذ عدة مظاهر ويتضمن تبني عدة لغات وعدة ثقافات، وهي عملية لم تتخذ مساراً واحداً فقط.
ومن جهة أخرى كان الوجهاء المدنيون من السكان الأصليين في الولايات العربية مثل العلماء والبيروقراطيين المحليين، يرتبطون بالوالي العثماني وحاشيته، وبعضهم يتمتع بروابط مع الحكومة المركزية في إسطنبول، الذي كان يربط أعضاء الحكومة بالأعيان أو من يُحتمل أن يصبحوا من الأعيان، هو رابط الراعي بالتابع، وهو الذي يربط كذلك بمجموعات خاصة من الأفراد من عامة الشعب. وقد كانت هذه الروابط الإطار الذي عمل فيه الأعيان المحليون، وبشكل أكثر تحديداً عمل الأعيان ضمن شبكات روابط الراعي بالتابع التي كانت تندمج في بيوتات بقيادة الراعي، إذ يترأس شخص من الأعيان بيتاً كهذا في الغالب، ومع ذلك فقد يبدأ حياته العملية في بيت لواحد من الجيل الأقدم من الأعيان أو في بيت لعضو في الحكومة. وكمثال لبيوتات الأعيان، تشير المؤرخة إلى أسرة آل العظم، الذين يبدو أنهم حكموا بمشيئة السلطة العثمانية المركزية، ونظرياً فإن حكام آل العظم مثل بقية الحكام العثمانيين المحليين، كان من الممكن نقلهم إلى أي ولاية في الدولة ومع ذلك فمنذ عشرينيات القرن الثامن عشر إلى بداية القرن التاسع عشر احتفظ أفراد العظم بسيطرة قوية على مناصب الولاية في سوريا، غالباً بواسطة عمليات شراء بارعة لحقوق المصادر الرئيسية للموراد المدنية والريفية لتصبح مالكانات.
ما تخلص إليه هاثاواي من خلال قراءتها لنظرية حوراني، أن الأخير كان مخطئاً في تفسيره لعلاقة السلطة المركزية بالأعيان، فالوجهاء مثل أسرة آل العظم أو ولاة بغداد أو حلب قد عدّوا استقلالهم الإقليمي الذاتي مكملاً لسيادة السلطان الشاملة، حتى أن التصرفات الاستفزازية لعلي بك الكبير في مصر والشيح ظاهر العمر في فلسطين وُضِعت في إطار المنافسات الإقليمية، وزيادة على ذلك فإن الولاء للسلطان العثماني كان مصدراً للتماسك الاجتماعي الذي يصعب الحصول عليه ثانية لو حكم الأعيان دولة مستقلة ذات سكان شديد التنوع القومي والديني والطبقي، كما أن هذا الولاء أعطى درجة من الأمن في مواجهة الأطماع الفرنسية والبريطانية والروسية المتزايدة.
والأهم من كل ذلك فإن علينا أن نتذكر أن العلاقة بين السلطة العثمانية المركزية وولاية ما أثناء القرن الثامن عشر لم تكن قضية تنافس بين مركزية، بل كانت أقرب إلى الحوار والتفاوض مع تبادل الطواقم والموارد، وأن حقيقة تحول بيوتات الأعيان المحليين إلى مراكز قوة تعتمد على نفسها تمكننا من القول إنها جعلت احتمال العداوة في هذه العلاقة أقل بكثير مما كان بين السلطة المركزية والولاة الجلاليين في القرن السابع عشر، الذين كانوا يهاجمون منظومة القصر التي لا تستوعبهم، بدلاً من إيجاد منظومتهم الموازية، وذلك لأنه بينما كان الولاة الجلاليون ونظراؤهم يكافحون لإقناع السلطة العثمانية المركزية بالاعتراف بشرعيتهم، فإن أعيان القرن الثامن عشر كانت لديهم القدرة على تأسيس شرعيتهم الخاصة التي كان على الحكومة المركزية الاعتراف بأمرها الواقع، كما قامت بتنمية علاقاتها الخاصة مع القوى الأوروبية، وكان ذلك أحياناً يتم بعدم اكتراث واضح برغبات الحكومة المركزية، وقد مهّد هذا الاستقلال المتزايد في النشاط مع عدم التمرد، الطريقَ للباب العالي للقيام بمحاولات لإعادة تمـــركز السلطة في القرن التاسع عشر.
٭ كاتب سوري
القدس العربي