السماء لا تمطر أملاً/ أمجد ناصر
نقف على أطلال عامٍ ونرى، بعدما نجونا، كأشخاصٍ، من خبطه العشوائي، حصاده الذي يسدُّ الأفق. نفعل هذا دورياً، ونقول في أسىً: يا له من عام سيئ. ونتمنى، بعضنا لبعض، أن يكون العام القادم أقلَّ سوءاً. هذا هو، عربياً على الأقل، قصارى الأمل والطموح. فمن ذا الذي يجرؤ على الأمل، بعدما تمَّ التنكيل به، وتشريده في الآفاق؟ إنه في بلادنا مقطوع من شجرة، كما يقولون، لا أهل له ولا عزوة. طبعاً، لم يكن حالنا مع الأمل هكذا دائماً. كان لديه أهل وعشيرة فقدهم كلهم، تقريباً، في الطريق الصاعد إلى جلجلة الصلب والقنوط. كان للأمل أهل. وكانت له مرابع، بدَّدها الجفاف الذي ضرب بلادنا سنين عدداً. وبمرور الوقت، نسي الناس أمره. فالأمل ليس مجرد شعور مرفَّه، أو فكرة متبطّلة، إنه أيضاً عمل. فالسماء لا تمطر أملاً. مثلما لا تمطر ذهباً ولا فضَّة. الأمل نبتة أرضية. ابن إرادة وكدح. تأملُ عندما تعمل. ولا أمل بدون عمل، إلا في أحلام رابعة النهار، وهذه لا يعوَّل عليها.
منذ لا أدري كم من السنين، ونحن نتحفَّز، في مثل هذا الوقت، لركل نهايات الأعوام بالأرجل والأقدام. لا نصدِّق أنها يمكن أن تولي. أن نراها ترحل، عسى أن يكون القادم ليس أفضل، بل أقل سوءاً. هناك استثناءات عامة وشخصية مرَّت، لكنها لم تصمد. لم تترك ما يُبنى عليه. يكفي أن تكون الأيام المقبلة أقل سوءاً مما مضى، لكي تكون أفضل، وربما في وسعها، آنئذ، استضافة الأمل المشرَّد، مثل قضايانا ولاجئينا، على أرصفة البرد والجوع والخذلان.
عام مكتظ بالأحداث والمآسي مرّ بالعالم العربي، لا لكوارث طبيعية، مثل ما جرى في أمكنة أخرى في العالم، بل بشرية. أقصد كوارث سبَّبها بشرٌ من كل صوبٍ ونوع. ليس هذا الجسد الذي يسمى العالم العربي ميتاً تماماً. لكن، مع ذلك يصحُّ عليه بعض قول الشاعر إن “من يهن يسهل الهوان عليه”. دلالة الحياة في هذا الجسد، عكس عجز بيت الشعر السابق، أنَّ الجراح تؤلم. وهي تنزُّ دماً قانياً في غير موضعٍ في هذا الكائن الضخم الممدَّد من الماء إلى الماء، أو من العطش إلى العطش. هناك حياة. نحن نراه يتحرّك. يحاول، بما لديه من رمق، أن يهشَّ قوى الفساد والنهب والاستبداد والغزو التي تداعت عليه كما تتداعى الأَكَلَةُ على القصعة. وتلك، في المأثور الديني، من علامات الساعة.
عام مكتظ بالألم والجراح والتشريد وتبديد الموارد مرَّ على العالم العربي. تمنياتنا بأن يكون أقل سوءاً من سابقه لم تُجدِ نفعاً. لأن التمنيات، مثل أحلام اليقظة، لا يعوَّل عليها. هناك زحمة في الأحلاف والأحلاف المضادة التي تجتلب إلى ساحتها قوى عظمى وصغرى، بعيدة وقريبة، كما لا يحدث في أي مكان آخر في العالم، تدوّم في سمائنا. أحلاف عربية، إسلامية، دولية، إقليمية، تتواجه على أرض المشرق العربي وسمائه. أرض الحرْف والعجلة والأبجدية والصفر والكتب المقدسة والشعر وألف ليلة وليلة، وشريان حياة العالم: النفط. كأنَّ التواريخ القديمة تعود. القياصرة والسلاطين، الشاهات والخلفاء، الملل والنحل، تطلع كلها من بطون الكتب والشعاب والقرى والدساكر التي لم نسمع بأسمائها، وتنتضي السلاح. يمكن لهذا العجيج أن يتخذ من الأسماء ما شاء، لكنه، لمن يعرف شيئاً من التاريخ، لا يعدو كونه إعادة إنتاج لوقائع قديمة لم تنطفئ نارها تماماً. خمدت تحت الرماد، ثم عادت، بعدما تمَّ النفخ في كيرها، إلى الاشتعال مجدداً. ذهلت وأنا أقرأ، قبل أيام، لمحاتٍ من زمن السلطان سليمان القانوني، لمناسبة اكتشاف ضريح له في هنغاريا، لعودة مفردات صراع زمنه حية ترزق. عودة الأسماء نفسها. الأمكنة نفسها. التوسعات والانكفاءات، كما هي من دون قناع: عرب، فرس، ترك، كرد، أوروبيون (ألمان، روس، فرنجة)، مسلمون، مسيحيون، سنة، شيعة، علويون إلخ إلخ..
هذا ما رأيناه في عام القتل والنهب واللجوء الملحمي الذي يتأهب للانصراف..
العربي الجديد