السودان: تغيّر الهتاف والحناجر واحدة/ صبحي حديدي
قدّر الله ولطف، فلم يركب الفريق عمر البشير رأسه ويقرّر الذهاب إلى نيويورك، لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة؛ متحدياً القرار 1593 الذي يطالب باعتقاله وإحالته إلى المحكمة الجنائية الدولية، بتهمة ارتكاب جرائم حرب في إقليم دارفور. في المقابل، وبدل هتافات “تسقط الأمم المتحدة!”، التي شقت عنان السماء قبل سنوات، عند صدور هذا القرار، يهتف السودانيون الآن: الشعب يريد إسقاط النظام!
وللمرء أن يبدأ من تفصيل بسيط، لكنه عميق الدلالة، مفاده أنّ الأمم المتحدة لم يكن لها حول أو طول في صياغة القرار إياه، رغم أنه صدر عن مجلس الأمن الدولي؛ إذْ لا نجهل كيف يشتغل المجلس، ومَن يشغّله. لأمين العام للأمم المتحدة، كوفي أنان حينذاك، سلّم المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية “لائحة مختومة” تتضمن أسماء 15 من “مجرمي الحرب” المزعومين، تضمّنت بالطبع عدداً من كبار المسؤولين السياسيين والأمنيين والعسكريين في الحكومة السودانية. ردّ البشير كان التلويح بعصا الماريشالية، أمام الجموع، والقسم بالله العظيم، ثلاثاً، أنه لن يسلّم أيّ مواطن سوداني للمحاكمة في الخارج. لم تغب عنه، كذلك، ضرورة تذكير السودانيين بما كانوا يجهلونه على الأرجح: “نحن، والله، أقوى من أمريكا”!
يصحّ، تالياً، أن ندع جانباً حقيقة نجاح الولايات المتحدة في ابتزاز فرنسا، وإجبارها على استثناء المواطنين الأمريكيين من أية ملاحقات قانونية أمام المحكمة ذاتها، التي لا تعترف بها واشنطن أصلاً. لم يكن ذاك بالجديد الذي يستدعي ثورة الغضب أو مشاعر الغبن أو استدعاء تلك البلاغة التي أكل الدهر عليها وشرب، حول الكيل الأمريكي بمكيالين أو عشرة أو مئة. وينبغي، استئناساً بالحال ذاتها، عدم استيلاد بلاغة جديدة مماثلة حول هذه السابقة الأولى منذ تأسيس المحكمة، إذْ لا بدّ من سابقة أولى في كلّ حال؛ وليس من المألوف، أو الممكن أو المنتظَر، أن تتهم تلك السابقة مسؤولاً إسرائيلياً مثلاً، حول جرائم حرب في غزّة أو الضفة الغربية؛ أو أمريكياً، بصدد معتقل غوانتانامو أو سجن “أبو غريب”!
آنذاك، أيضاً، كانت وزيرة الخارجية الأمريكية، كوندوليزا رايس، هي التي أفصحت عن جدلية هذه السابقة بالذات، حين اعتبرت أنّ السودان يمثّل “حالة خاصة”. لماذا؟ لأنّ سلفها كولن باول (وكان “حمائمياً”، للتذكير المفيد، من جانب رايس) هو الذي استخدم مصطلح “إبادة جماعية” في وصف ما يشهده أقليم دارفور من فظائع. كذلك قالت، دون أن تقتفي أثر السلف بالحرف: “أياً كان مسمّى هذه العمليات، فمن الواضح أنّ هناك جرائم ضدّ الإنسانية ارتُكبت في السودان، وأنّ هناك مَن يجب أن يتحمّل المسؤولية عنها”.
.. شريطة استثناء أيّ، وكلّ، مواطن أمريكي بالطبع! لا نعرف تماماً كيف استطاع الرئيس الفرنسي الأسبق، جاك شيراك، ابتلاع مهانة كهذه؛ ولكن بدا واضحاً أنّ الاستثناء كان ثمن تطبيق القاعدة، في قرار لم تكن واشنطن متحمسة له في الأساس. ومنظمة حقوق الإنسان الأمريكية “هيومان رايتس واتش”، التي تولت حملة استصدار القرار، أعلنت أنها “ترفض بقوّة الثمن الذي فرضته الحكومة الأمريكية. إنّ ما فعلوه من قبيل الابتزاز، واستخدموا شعب دارفور للحصول على ما هو غير مقبول في نظرنا”!
كأنها كانت المرّة الأولى، التي تشهد لجوء واشنطن إلى توظيف مأساة البشر في إقليم دارفور، لصالح أغراض خفيّة في أجندة خافية. أو كأنّ مآسي دارفور لم تتكرر، على نحو أشدّ وحشية وفظاعة واستهتاراً، في أمكنة اخرى عديدة، على يد حكّام/مجرمي حرب؛ على رأسهم اليوم بشار الأسد، الكيماوي، أو المثال المتواصل المستديم. أو كأنّ ارتكاب جريمة الحرب في دارفور أشدّ هولاً، وبالتالي أكثر جاذبية للنجوم، في ستوديوهات هوليود أسوة بأروقة البيت الأبيض، من جرائم حرب شهدتها بلاد الشيشان، أو أفغانستان، أو سورية…
قدّر الله ولطف، إذاً، فلم يجازف البشير بالسفر. وإزاء ثبات أخلاقيات الكيل بمكيالين، في مجلس الأمن الدولي أو المحكمة الجنائية أو هذه وتلك من مؤسسات “المجتمع الدولي”؛ ثمة عزاء في أنّ هتافات السودان تغيّرت، في الشكل كما في المحتوى، ولكنها ما تزال تتعالى من الحناجر ذاتها؛ وهذه بشرى، وهي خير وأبقى!
موقع 24