صفحات سوريةفايز ساره

السوريون اليوم!


فايز سارة *

لا يحتاج السوريون في تعريفهم البسيط الى كلام كثير يقال فيهم، اذ يستمدون اسمهم من الانتماء الى بلد اسمه سورية، تبلغ مساحته مائة وثمانين ألف كيلومتر مربع، مقسم إدارياً إلى أربع عشرة محافظة، وبعدد إجمالي من السكان يــــناهز ثلاثــــة وعشرين مــــليون نسمة، وبتوزعهم دينياً الى مسلمين ومسيحيين، مع فارق كبير بين نسبة كل منهما، ومثـــــل ذلك تكاد تكون النسبة اذا نظرنا الى السوريين حسب اصولهم القومية، حيث أكثرية من العرب، الى جانب الأكراد والأشوريين والشركس والأرمن والتركمان، أما من حيث الطوائف الدينية، فيتوزع المسلمون الى طوائف، أكبرها من السنة، والى جانبها طوائف من العلويين والشيعة والدروز والإسماعيليين، كما يتوزع المسيحيون الى طوائف من الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك، ثم السريان والأشوريين والأرمن والبروتستانت والموارنة، وفي اطار هذه المواصفات يمكن رؤية ملامح السوريين في عداد شعوب شرق المتوسط.

غير ان التعريف البسيط للسوريين لا يعطي صـــــورة واقعـــــية عن السوريــــــين الذين يحتلون اليوم مركزاً مهماً في لوحة أحداث المنطقة، والذين تتناقل وسائل الإعلام أخبارهم وبتركيز واضح منذ حوالى عشرة اشهر، هي المدة التي انقضت على بداية حركة الاحتجاج والتظاهر في أواسط آذار (مارس) الماضي، والتي قادت الى تبدل نوعي في تعريف السوريين، سواء من حيث معرفة العالم بهم ولجهة تعريفهم بأنفسهم.

السوريون اليوم متظاهرون في احد وجوههم، وضحايا في وجه آخر. متظاهرون في عشرات المدن والقرى الموزعة ما بين القامشلي في الشمال ودرعا في الجنوب مروراً بحمص في الوسط، ومن دير الزور في الشرق الى اللاذقية في الغرب مروراً بالوسط الساخن، وهم ضحايا، اذ تجاوز عدد من قتلوا بصورة موثقة ستة الآف شخص، باستثناء المفقودين، وهم الآخرون بالآلاف، اضافة الى عشرات آلاف الجرحى وكثير منهم تحولوا الى معاقين، وثمة عشرات آلاف المعتقلين والمطلوبين، ونحو ثلاثين الف نازح خارج البلاد موزعين ما بين تركيا والاردن ولبنان وليبيا، وقد تجاوز عدد النازحين الى الأخيرة خمسة آلاف نسمة.

تظاهرات السوريين ما زالت تحمل مطالب الحرية والكرامة، كما كان عليه الحال في البداية، وقد وسعت مطالبها السياسية إلى حد إسقاط النظام، في اطار رد على استمرار الحل الامني – العسكري وتصاعده ضد الاحتجاجات السلمية، لكن بعض التظاهرات لا تخلو من هتافات غير سياسية، وبعضها لا يتوافق مع أفق ثورة السوريين من اجل الحرية والكرامة، وهو يتشابه مع الدعوات التي تظــــــهر هنا وهناك لتوجه بعض معارضي النظام الى مقابلة عنف السلطات بعنف الثورة، وهي دعوات ما زالت تقابل برفض وحذر شديدين في اوساط سورية واسعة، أبرز مبرراتها أنّ تحــــولاً كهـــــذا سيفقد ثورة السوريين أقوى أسلحتها، وهو السلمية، ويخرجها من موقفها الاخلاقي الحاسم في رفضها العنف الذي يمارسه النظام والرد عليه بالتظاهر السلمي.

السوريون اليوم منقسمون بين جماعة تريد التغيير بمعناه العميق وأخرى تريد الحفاظ على الوضع القائم مع اجراء تغييرات طفيفة، وثمة جماعة ثالثة مترددة، قلقة، وجزء منها خائف من احتمالات المستقبل. وان كان الاخيرون من المترددين ودعاة الحفاظ على النطام اقرب الى السكون في نظرتهم الى التغيير، فان الجماعة الاولى تبدو اكـــثر نـــــشاطاً وحيوية رغم ما اصابها من أضرار وأذيات بشرية ومادية كبيرة بفعل القمع العنيف الذي تقابل به رغبتها بالتغيير.

والرغبة في التغيير عند هذه الجماعة، ليست محكومة بالتظاهر والاحتجاج فقط، بل ان ذلك تعبير عن مضامين اعمق لمشروع سوري كامل عنوانه العام اقامة نظام ديموقراطي تعددي مدني الطابع، نظام يوفر العدل والعدالة والمساواة وحكم القانون في اطار شرعة حقوق الانسان، نظام لكل السوريين بلا استثناء، وهذه الجماعة في الطريق الى مشروعها تسعى الى براهين عملية ويومية على الطريق، يتجسد أبرزها في مضامين هتافات التآزر بين المدن والقرى التي تطلقها حناجر المتظاهرين، وفي تأكيد وحدة السوريين، وفي التطمينات السياسية التي يتم تبادلها، وفي المساعدات المادية والعينية التي تتبادلها المناطق في ما بينها، بما فيها عبوات الدم، التي تمزج دماء السوريين في أوعية بشرية واحدة، وكلها وقائع تضفي على مشروع المستقبل أبعاداً عملية.

القسم الاكثر حيوية من السوريين اليوم يرسمون صورة اخرى لانــــفسهم، تتجاوز التعريف البســــيط الذي كانوا يعرفون به، ليصلوا الى صورة أكثر اثارة وحيوية، صورة فيها كثير من المعاناة والآلام، لكن فيها كثير من الامل، ليس في تغيير حياتهم، بل في اعطاء مثال لكل الراغبين في تغيير حياتهم من الشعوب التي تعاني من انظمة الاستبداد والاستئثار في عالم اليوم.

* كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى