السوريون بين ثورتهم ومحنتهم/ أكرم البني
لعل أهم ما يميز الثورة السورية هو استثنائيتها وفرادتها، ليس فقط لأنها فاجأت الجميع بعفويتها وديمومتها، وتجاوزت كل الحسابات والتوقعات، وإنما لاتساعها وجذريتها، وكأن الشعب رمى بكليته في أتونها، ووضع مصيره بأكمله في رهان على التغيير أو الموت، ثم لروحها المفعمة بالتحدي والتي تزداد اشتعالا وإيثارا باطراد مع ازدياد القمع والتنكيل، وأيضا بسبب استثنائية معاناة الناس وشدة ما يكابدونه، والتضحيات الباهظة التي قدمت وتقدم على مذبح الحرية والكرامة.
ثار السوريون يحدوهم أمل كبير بأن تستجيب السلطة لمطالبهم، كانت عيونهم ترنو نحو ما حققته المظاهرات الشعبية وحشود ساحات التحرير والتغيير في تونس ومصر واليمن، فأظهروا حماسة قل نظيرها للحفاظ على سلمية احتجاجاتهم وتواترها.
لم يكن في حسبانهم أن تصل الأمور بهم إلى ما وصلت إليه، وفاقت شدة العنف توقعاتهم، وكذلك السياسة السلطوية التي بدت وكأنها مبيتة أو محضرة مسبقا لتحويل الصراع من صراع سياسي وسلمي إلى صراع مسلح تشحنه الغرائز والاستفزازات الطائفية، لتبدأ محنتهم مع نظام يزدري السياسة ولا يقبل التنازلات أو المساومات، وتتصرف أركانه كأنها في معركة وجود.
كما تتصرف أيضا بثقة بأن ليس هناك من رادع يردعها عن توظيف مختلف أدوات القهر والفتك حتى آخر الشوط، في رهان واهم على إخماد الثورة وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه، بدليل هذه الطريقة التدميرية التي تتعرض لها أماكن السكن في معظم المدن والأرياف السورية، وشدة الحصار المزمن عليها والضغط على حاجاتها وخدماتها وشروط معيشتها، دون اهتمام بالحفاظ على اللحمة الوطنية، أو بالبحث عن حوافز ترضي هؤلاء المواطنين المنكوبين للبقاء جزءا من المجتمع الواحد.
والنتيجة عنف منفلت يمعن تخريبا وتدميرا في حياة الناس وممتلكاتهم، معرضا -حتى الآن- أكثر من نصف السوريين لأضرار وأنواع من الأذى، عشرات الآلاف من القتلى ومثلهم من الجرحى والمشوهين، وتفوقهم أعداد المفقودين والمعتقلين ثم أضعاف مضاعفة من الهاربين نزوحا داخليا إلى أماكن أقل عنفاً أو لجوءا إلى بلدان الجوار، ناهيكم عن مئات الألوف باتوا اليوم بلا مأوى، والملايين في حالة قهر وعوز شديدين وقد فقدوا كل ما يملكون أو يدخرون.
وتكتمل الصورة المأساوية بوضع اجتماعي واقتصادي لم يعد يحتمل، إن لجهة انهيار الكثير من القطاعات الإنتاجية والخدمية وتهتك الشبكات التعليمية والصحية، حيث بات ملايين الأطفال بلا مدارس أو رعاية طبية، أو لجهة صعوبة الحصول على السلع الأساسية وتدهور المعيشة مع انهيار القدرة الشرائية وتفشي غلاء فاحش لا ضابط له، تأثرا بارتفاع سعر الدولار بالنسبة لليرة السورية التي خسرت أمامه ما يقارب ثلثي قيمتها.
والأهم ما يخلفه العنف المفرط، والاستفزازات الطائفية من تشوهات وانقسامات في المجتمع، ومن شحن العصبيات وروح التنابذ والتنازع، وتشجيع عودة كل مكون اجتماعي إلى أصوله القومية أو الدينية أو الطائفية، كي يضمن بعضاً من الحماية والوجود الآمن، مما يهدد النسيج البشري -المتعايش منذ مئات السنين- بالانشطار إلى هويات ممزقة، وإلى صراعات من طبيعة إقصائية ستترك آثارا مريعة على وجود ووحدة البلاد والدولة والشعب.
ثار الناس البسطاء بمعزل عن الأيديولوجيات والبرامج الحزبية، ومن دون قوى سياسية عريقة أو شخصيات كاريزمية تتصدر صفوفهم، كانوا متعطشين لقيادة سياسية مجربة وموثوقة، تنصر ثورتهم وتقودها بأقل الآلام والأخطاء.
ولكن محنة هؤلاء البسطاء أنهم نكبوا بمعارضة لم تكن على “قد الحمل” ولا تزال -وللأسف برغم فداحة الدماء والتضحيات- كأنها في رحلة بحث عن ذاتها ودورها، تنوء تحت ثقل نزاعات لا طائل منها، ويعيبها تقصيرها في خلق قنوات التواصل مع الحراك الشعبي، أو ظهورها كرد فعل أو صدى لصوت الشارع، وتاليا بطؤها في تدارك سلبياتها وامتلاك زمام المبادرة، وفي تقديم رؤية لمسار الصراع وللآليات السياسية الكفيلة -ضمن خصوصية المجتمع السوري، بتعدديته وحساسية ارتباطاته الإقليمية والعالمية- بتبديل المشهد والتوازنات القائمة بأقل تكلفة.
كما يعيبها أيضا ترددها في اتخاذ موقف واضح من تنامي وزن الجماعات المتطرفة، وأدوارها المقلقة التي تمكنت في غير مكان من مصادرة روح الثورة وقيمها، والانحراف بقطاعات من الحراك الشعبي عن شعارات الحرية والكرامة، وأفقدت الثورة فئات متعاطفة معها كانت مترددة ومحجمة عن المشاركة بسبب غموض البديل المنشود.
عمر الثورة السورية ليس قصيرا، وهو أكثر من كافٍ لاختبار أحوال المعارضة السياسية وقدراتها، وللتأكد من عجزها وتقصيرها في مواكبة الحراك الشعبي، وفي بناء قنوات للتواصل والتفاعل معه، ومده بأسباب الدعم والاستمرار.
وللأسف، لن تنجح المعارضة السورية في معالجة هذه الثغرة، وفي نيل ثقة الناس وقيادة ثورتهم، ما دامت لم تنجح في إظهار نفسها كقدوة حسنة في المثابرة والتضحية، وفي إطلاق المبادرات لتمكين الحراك الشعبي وتغذيته بالخبرات السياسية والمعرفية، وما دامت أعداد كوادرها تزداد في المهجر بينما تزداد الحاجة إليهم في المناطق التي خرجت عن سيطرة السلطة، لتنظيم الحياة والأمن وخلق نمط من التعاضد لتقاسم شح الإمكانيات المعيشية، وأيضاً للحد من التجاوزات والخروقات وروح الثأر والانتقام التي تنشأ في ظل غياب دور الدولة والقانون، ولمحاصرة التعصب والانحرافات الطفولية الحالمة بانتصار سريع وتقاسم للمغانم، والأهم لإعادة الوجه الأخلاقي للثورة، ليس فقط من زاوية معالجة العنف وتداعياته، وإنما أيضا من زاوية رفع قيمة الإنسان، كروح وذات حرة، ووضعها في الموضع الذي يليق بها، والمجالدة لضرب المثل في الالتزام بسلوك ينسجم مع شعار الحرية، ويبدي أعلى درجات الاستعداد للتسامح واحترام التنوع والتعددية وحق الاختلاف.
المعروف عن الشعب السوري تسامحه، وسلاسة العلاقات والتعايش بين أبنائه على تنوع انتماءاتهم، لكن من مظاهر محنته اليوم بعض الظواهر الدالة على مستوى مقلق من الغرائز المشحونة بالانفعالات الطائفية الموتورة، ربما تنذر بتبلور عصبيات متخلفة، تحكمها نزعات إقصائية، تهدد مفهوم المواطنة ووحدة المجتمع وعناصر تماسكه وغناه الإثني والديني.
وأوضح هذه المظاهر تلك المشاهد التي تفوح برائحة الأصولية والتطرف، كإمارة إسلامية هنا أو جيب للجهاديين والقاعدة هناك، وهي مشاهد غريبة عن الثقافة الدينية الجمعية، ويصعب على الذهنية السورية قبولها.
ويبدو كما لو أن الأسباب اجتمعت كي تجعل ثورة الحرية والكرامة نهبا لمخالب الغير، ومسرحا لقوى وجماعات متعصبة، يشتد عودها ردا على عنف النظام المفرط وممارساته الاستفزازية، بعد أن وجدت في مناخ الثورة وانكشاف الصراع المذهبي فرصة للزج بنفسها، مدعومة بمال سياسي لا تخفى شروطه وإملاءاته، وبقوى وكوادر على صورتها ومثالها بدأت تتوافد من مختلف البلدان وتتسابق لفرض أجندتها في بلاد الشام.
ولعل هؤلاء -مع الاعتراف باستعدادهم العالي للتضحية والشهادة- هم الأبعد سياسيا عن شعارات الحرية والديمقراطية، والأكثر استسهالا للأعمال الانتقامية وللتجاوزات المهددة لحقوق الآخر وخصوصية ثقافته.
لا يمكن لثورة نهضت لمقاومة الاستبداد والتمييز أن تأخذ معناها الحقيقي إن لم تبق أمينة للشعارات التي أطلقتها، وإن لم تبادر اليوم قبل الغد لضبط التجاوزات التي يهدد تراكمها بانزلاق المجتمع إلى مزيد من التفكك وإلى دورة عنف مدمرة، وإن لم تسارع إلى احتواء كل أنواع الشحن الطائفي، وتتحسب من التعميم ومن اقتحام التعددية الإثنية والدينية بمنطق العنف والغلبة، وإن لم تتأن وتكبح محاولات عزلها عن بيئتها واستعداء الناس لها وهروبهم من جماعاتها المسلحة بمجرد دخولها إلى مناطقهم، وتاليا مراجعة مسؤوليتها النسبية عن الأضرار الفادحة الناجمة عن خوض معارك في أماكن مكتظة من أجل انتزاع موقع، أو التقدم تكتيكيا.
ثار السوريون وكان من البديهي عندهم أن يقارنوا ثورتهم بما حصل في تونس ومصر واليمن وليبيا، وأن يراهنوا على دور عربي أو أممي ينصر مطالبهم المشروعة ويساندهم في وقف العنف ووضع البلاد على سكة حل سياسي.
ولكن وفي ظل تعارض المصالح العربية والغربية مع مثل هذا الدور لأسباب عديدة -منها الجوار الإسرائيلي، وارتباط سوريا بحلف نفوذ في المنطقة- تحول الأمل إلى محنة، وبدا لكل ذي عين أن التدخل الدولي غرضه ليس إطفاء بؤرة التوتر، بل إذكاء نارها كلما بدأت تخبو، مما يعني ابتلاء الناس بسياسات عربية ودولية تجاه ما يكابدونه، لا تجد تفسيرا لديهم سوى أنها “مؤامرة كونية” تتقصد إجهاض ثورتهم وحلمهم في الحرية والتغيير.
ورغم الإحجام الأممي عن التدخل الفاعل -على الأقل لحماية المدنيين- فإن ثورة السوريين لم تعد مجرد ثورة محلية، فقد أفضى طول أمد الصراع وحالة العنف المفرط والإنهاك الذي أصاب القوى العسكرية والأمنية وتسارع التدهور الاقتصادي، إلى استجداء دعم خارجي واسع، وإلى تحويل الصراع الداخلي الى صراع ذي بعدين إقليمي ودولي.
وبسبب ذلك يمكن القول إن البعد المحلي أصبح ثانويا ومرتهنا للبعد الخارجي، ولنقف أمام معادلة مؤسفة ومؤلمة تقول مثلما أن النظام لم يعد قادرا على إدارة حربه من دون الدعم الإقليمي والدولي وعلى كل المستويات، فإن المعارضة أيضا ليست قادرة على الاستمرار والمواجهة وتعديل حضورها من دون إمداد إقليمي ودولي.
أخيراً، هو أمر بديهي أن يتمنى كل عاقل مسارا سلسا وآمنا لثورة تقوم من أجل التغيير الديمقراطي ونقض الاستبداد، وأن يخشى من خطف شعاراتها عن الحرية والكرامة وحلول استبداد محل آخر أشد قسوة وأضيق خناقا، ويتحسب مما قد يرافق هذه المرحلة الاستثنائية من فتك وتنكيل وانفلات قوى المجتمع من عقالها على غير هدى، لكنه لن يكون عاقلا إن اندفع نحو تسطيح الأمر معتقدا أن الثورة هي مخطط مرسوم مسبقا في الأذهان، يفترض أن يتحقق دون عوائق أو خسائر أو آلام، أو ينجرف بحجة ما قد يرافق مسار التغيير من فظائع وأهوال نحو الدفاع الأعمى عن الركود والاستنقاع القائم على القهر والفساد والمهانة!
إن الدرس الأعمق الذي لن ينساه السوريون أبدا بعد خروجهم من محنتهم، هو حجم مسؤوليتهم في قيام الاستبداد ودوام استمراره، وأنه ما من جهد يجب أن يوفر أو يؤجل بعد اليوم لمنع إنتاج ظواهر الاستبداد والتمييز في الدولة والمجتمع مستقبلاً، جهد يمتد في مختلف حقول الحياة، في السياسة والدين، وأيضاً في الثقافة والتربية والتعليم والمجتمع المدني.
“أما آن لهذه المحنة أن تنتهي؟” هو رجاء الذين باتوا يتوجسون من ذلك الوجع والخراب الذي قد يحل بالبلاد قبل أن تطوى صفحة الاستبداد، وهو رفض صريح للعنف المفرط، ولأية دوافع تسوغ استمراره.
لكن اللافت أن غالبية الناس تحرص على أن لا يشي هذا الرجاء في الخلاص ورفض العنف بيأس وإحباط، وكأنهم لا يريدونك أن ترى في العيون المتعبة والإحساس بضيق الحال، أن ثمة تغيرا طرأ على عزيمتهم وإيمانهم بالثورة، أو كأنهم يعتبرون هذه المحنة -على شدتها- اختبارا لروحهم المتحفزة للتغيير والخلاص، الأمر الذي يفسر “النعم” التي تتكرر على لسان كثير من السوريين في الجواب على سؤال هل كنت تثور لو أدركت مسبقا أن البلاد سوف تصل إلى هذه المحنة الفريدة؟
الجزيرة نت