السوريون والطريق إلى أوروبا”.. صحافي ألماني واكب الكابوس/ وجدي الكومي
لقد كانت هذه الرحلة كابوساً.. وهي لم تبدأ بعد.. العبارة للمهاجر السوري عمار عبيد، بطل حكاية اللجوء المروعة التي يحكيها الألماني فولفجانج باور، الصحافي في جريدة “دي تسايت” الألمانية، والذي وضع كتاباً عن تجربة اللاجئين السوريين فى اقتحام أسوار أوروبا، وصدرت ترجمته مؤخراً فى القاهرة بعنوان “هاربون من الموت – السوريون والطريق إلى أوروبا” عن دار العربي للنشر والتوزيع.
تستحق الحكاية أن يتم توثيقها بالشكل الذي فعله الصحافي الألماني، وزميله المصور التشيكي ستانيسلاف كروبر، إذ تنكرا في هيئة لاجئين يرغبان فى عبور البحر المتوسط، مع اللاجئين السوريين، لتوثيق مخاطر الرحلة، والكتابة عنها. وهكذا صار لدينا هذا الكتاب المهم الذي استهله الصحافي الألماني بقوله: “ها هو العالم العربي يغرق فى الأوحال نفسها التي اجتاحت أوروبا منذ 70 سنة، وطعنتها بالحروب الهمجية، وبالكراهية وبالعنف، إلا أن قدر مصر الجغرافي جعلها حلقة وصل بين عوالم مختلفة”.
يسلط باور عدسة تليسكوبية، فى مستهل كتابه، على ظروف مصر، قبل الولوج مباشرة إلى عالم الرحلة المحفوف بالمخاطر: “تحيط بمصر حربان أهليتان اندلعتا فى سوريا وليبيا، صارت أرض الكنانة قطعة فلين طافية على سطح بحر متلاطم الأمواج”.
هكذا نمضي مع الصفحات الأولى للكتاب، ونحبس أنفاسنا، بينما تتكشف الرحلة عن ظروف اللاجئين السوريين التى ساءت في مصر بعد أحداث 30 يونيو 2013. فيصف باور كيف تحول السوريون الذين تكيفوا في مصر، بعد اضطرارهم للفرار من بلدهم التى تناوب على التهامها الذئاب، إلى التفكير في الهجرة، والخروج من مصر، التي باتوا فيها مهددين بأجواء ماكارثية شديدة القسوة، تصنفهم إبان أحداث إطاحة الرئيس الإخواني محمد مرسي، بأنهم محسوبون على هذا التيار الإسلامي. وهكذا يبدأ صاحب الكتاب الذي تنكر في هيئة لاجئ من إحدى جمهوريات القوقاز، بالإشارة إلى وقائع التظاهرات الدامية التي شهدتها القاهرة بعد إسقاط الحكومة المنتخبة، ويلفت إلى أن القارة العجوز، أمنت حدودها بجدار عازل في مستعمرتي “سبتة” و”مليلة” على البحر المتوسط، وكيف شيدت اليونان وبلغاريا حواجز لصد اللاجئين، ومراقبة مضيق جبل طارق بتكنولوجيا متطورة من الردارات وكاميرات المراقبة.
يربط الصحافي الألماني كل هذه الإجراءات الأوروبية المتعسفة، بوقائع تاريخية من المشهد الألماني عقب تقسيم برلين، حينما لاقى 125 شخصاً نحبهم، بينما كانوا يحاولون اجتياز سور برلين، وهي الإشارة الذكية لمؤلف الكتاب، تبرر ربما أسباب تفهم ألمانيا لحالة اللاجئين الصعبة.
“البحر المتوسط الذي كان مهد أوروبا وشهد مولدها.. صار المسرح الأكبر للخذلان والفشل”.. هكذا يمضى المؤلف في وضع الصراع الذي تشهده دول شمال البحر المتوسط، مع اللاجئين المتدفقين من سواحله الجنوبية، في موضعه الصحيح. إذ تحول البحر المتوسط إلى ساحة حرب غير رسمية، يشترك فيها مقاولو وسماسرة الهجرة غير الشرعية، وضباط خفر السواحل المنتمون لدول الساحل الجنوبي للبحر (مصر وليبيا وتونس وغيرها)، وضباط خفر السواحل المنتمون لإيطاليا واليونان. ولعل هذه الأطراف هي مجرد بيادق، في معركة الملوك، الدول الأوروبية التى تضغط على دول البحر المتوسط لحماية سواحلها، من المتدفقين، الهاربين من ويلات الحروب، والصراع الدموي الفاتك بالأرواح.
ومن المآسي التي يعرض لها الكتاب، الأيام الأخيرة لأسرة عمار قبل انطلاقه إلى سماسرة الهجرة غير الشرعية. يحضر باور اللقاء المؤثر بين اللاجئ السورى عمار، وابنته “راوية”، والوداع الباكي لزوجته. عمار جاء إلى مصر هاربا من ويلات الحرب السورية، أسس في القاهرة شركة استيراد صغيرة، جلب من خلالها الأثاث من الهند، وافتتح محلاً، وشغلّ فيه ثمانية عمال، لكن تصاعد الكراهية ضد السوريين، وإجبارهم على الحصول على فيزا من قبل الحكومة المصرية، جعل عمار يفكر في الخروج من مصر التي تحولت إلى فخ، إذ وجد السوريون أنفسهم على طريق اللجوء، بسبب خطاب الكراهية المتصاعد ضدهم في البلد الذي تمنوا أن يكون آمناً لهم.
يعرج بنا مؤلف الكتاب إلى أحداث شائكة، منها التفاصيل الهائلة التى عثر عليها فى مغامرته الخطرة، التي انتهت إلى السجن، والترحيل من مصر، حيث يعيش باور مخاوف اللاجئين السوريين، بينما يتنقلون مع المهربين، في شقق بالإسكندرية، انتظاراً لانطلاق رحلتهم الخطرة عبر البحر. يعطلهم الموج العالي، والرياح العاصفة، وطمع المهربين، وسماسرة الهجرة غير الشرعية، ومساوماتهم التي لا تنتهي، ومفاوضاتهم على مال أكثر. يمخر بحراً من التفاصيل المهولة عن عالم التهريب السفلي، ووصف لعوالم الإسكندرية، يقول باور: “في الإسكندرية هناك عالمان متوازيان، عالم النهار الذى يمثله أشخاص رسميون، يمضون ببزات براقة، وفي بعض الأحيان ملابس مدنية، لكنهم مرتشون، فاسدون، لا يمانعون إظهار هوياتهم، من أجل إضفاء نوع من الشرعية على عملهم، بعضهم من جهاز الشرطة، أما العالم الآخر، فهو عالم البلطجية والعصابات، والمهربين الذين يسيطرون حينما يجيء الليل”.
يقص المؤلف كيف تسقط المجموعة في قبضة مافيا أخرى، غير تلك التي اتفقوا معها على نقلهم إلى أوروبا. يمضى في ذكر تفاصيل مهمة ومرعبة، عن تقسيم شواطىء الإسكندرية بين العصابات العاملة في هذا البزنس. يروي كيف تتسبب المنافسة بين العصابات فى إفساد البزنس كله، بإبلاغ خفر السواحل عن رحلات التهريب، والسفن التى تتأهب للإقلاع، وذلك كله طمعاً في الاستحواذ على النشاط. يشير إلى أن أحد رؤساء عصابة المهربين، ينوي عقد اجتماع مع منافسيه كي يحل السلام، ويتفقون في ما بينهم على إنجاح الرحلات. يقدم لنا باور صورة جريئة لحال المهرب الذي يسمى “أبوحسان”، والذي يقول لعمار ورفاقه من اللاجئين: “الرحلة دي مهمة بالنسبة لي، زي ما هي مهمة بالنسبة لكم”.
لكن هناك أربعة مهربين كبار قسموا النشاط بينهم، يتنازعون. أحدهم أبو حسان الذي أشرف على 35 رحلة توجهت إلى إيطاليا، ولعل هذا الجزء من الكتاب هو الأبرز، اذ نتعرف على رسم عبور البحر المتوسط، يقول باور: “المهرب يدفع 30 ألف يورو لنقاط مراقبة خفر السواحل، مقابل تمريرهم، لكن هذه ليست العقبة الأخيرة، منذ يومين عاد قبطان سفينة كبيرة نسبياً إلى الشاطىء مع كل ركابه، وسلمهم إلى خفر السواحل، لأن أحد المهربين المنافسين دفع له لتخريب الرحلة”.
يوغل الصحافي الألماني فى تفاصيل أخرى، منها رحلة اللاجئين نفسها إلى جزيرة نيلسون، والقبض عليهم، وإعادتهم إلى الإسكندرية، ثم معاودتهم الكرة، وتوجههم هذه المرة إلى اليونان، عبر سفينة “البسام”، ثم ركوب لاجئين أكراد ونزول لاجئين مصريين، واستمرار الرحلة إلى إيطاليا.. تتنازع المؤلف مشاعر الرغبة في مساعدة اللاجئين الذين تعرف عليهم فى مغامرته، والسماح لهم بدخول ألمانيا بطرق غير شرعية، ومشاعر أخرى مضادة، بأن عمله سيكون غير قانوني”.
يستمد كتاب فولفجانج باور أهميته، من كون هذه القضية لا نهائية. الآن، بينما أنهى سطور هذا المقال، أطالع فى صحف مصرية أنباء تقول إن هذا البحر ابتلع أكثر من 3 آلاف مهاجر منذ يناير الماضي، حسبما أعلنت منظمة الهجرة الدولية. بينما تمكن 250 ألف مهاجر من عبوره. يفصل البحر المتوسط بين عالمين، أحدهما يركله بقدمه رغبة في النجاة وأملاً في عبوره، وآخر يحاصره كي يصد القادمين.
المدن