السوريون وسؤال الهوية.. المجتمع السوري عاريا
د. خولة حسن الحديد
تثير الأوضاع الراهنة التي يمر بها السوريون كمجتمع وكنظام سياسي العديد من التساؤلات التي ينبغي لكل سوري أن يتوقف عندها طويلاً، ويحاول الإجابة عنها بواقعية وصدق مع الذات، لأنها تحمل في جوهرها الحل المنشود نحو غدٍ أفضل لسورية الدولة والوطن والشعب، ولا يمكن لأي سوري أن ينكر حالة العري والانكشاف والانقسام الذي بدا عليه المجتمع السوري بعد الحراك الشعبي الجامح الذي دخل شهره الرابع، من دون حلول إيجابية تلوح بالأفق سوى مزيد من الانكشاف ومزيد من المخاوف التي يستبطنها كل سوري من تشظي المجتمع وتفككه ودخوله في نفق مظلم قد يستعصي الخروج منه.
لعل أول وأهم سؤال تطرحه المرحلة الراهنة هو سؤال الهوية الوطنية، ذلك المفهوم الذي قد يؤكد كثير من السوريين إنهم يمتلكون ناصية جوابه ويجسدونه، إلا ان حالة اللااستقرار التي يعيشها المجتمع وعدم قدرة مكوّناته المختلفة على الإجـــماع بشأن قضيـــة جوهرية تعدت أبعاد التأييد والمعارضة السياسية إلى أبعاد أخلاقية وإنسانية يفترض بها ألا تكون موضع خلاف، تنفي ذلك التأكيد، وتستدعي التفكير والعمل على هذا السؤال، فأي ‘هوية’ يريدها السوريون؟ ومن المعروف أن هذه الهوية هي الضامن الوحيد للوحدة الوطنية التي تقف وراء مشروع الدولة وحمايته من التفكيك الذي سيأتي نتيجة حتمية لفشل النظام في تحقيق التطابق بين الهوية الوطنية والكيان السياسي الذي أتيحت له فرص عديدة للقيام بذلك عبر عقود من الزمن.
يقول أمين معلوف في كتابه ‘الهويات القاتلة’: ‘لقد عرفت كل العصور أشخاصاً اعتبروا أن هنالك انتماءً أساسياً يسمو على كافة الانتماءات الأخرى مهما كانت الظروف، يمكننا أن ندعوه بصورة مشروعة ‘هوية’، وهو الأمة بالنسبة إلى البعض، والدين أو الطبقة بالنسبة إلى البعض الآخر، ولكن يكفي أن نستعرض النزاعات المختلفة الدائرة في أرجاء العالم لنتحقق من ألا انتماء يسمو بالمطلق، فحيث يشعر الناس بأن إيمانهم مهدد، يختصر الانتماء الديني هويتهم بكاملها، أما إذا كان الخطر يحدق بلغتهم الأم، أو مجموعتهم الإثنية، فهم يقاتلون بضراوة إخــــوانهم في الدين، وإذا كانت الديمقراطية لا تفلح دوماً في تسوية المشاكل المسماة ‘بالإثنية’، فلم يثبت قط أن الديكتاتورية أوفر حظاً’. وانطلاقاً من ذلك نجد أن النــــظام الدكتاتوري الشمولي الأوحد في ســـورية الذي يدّعي العلمانية ومنذ توليه الحكم وحتى اللحظة الراهنة فشل في استئصال التطرف الديني والمذهبي، كما فشل في استيعاب الإثنيات التي يتكون منها المجتمع السوري، ولذلك وصل المجتمع إلى ما وصل إليه من التأزم مقترباً من الانفجار، لأن إقامة علاقة صحيحة بين الفئات المختلفة للمواطنين يقوم بشكل أساسي على الاعتراف بتعدد الانتماءات اللغوية والدينية والإثنية، التي تصبح بدورها مصدرغنى وإثراء للشخصية الوطنية الجامعة.
إنّ المفاضلة والتمايز بين أبناء المجتمع الواحد على أساس العرق أو الدين أو المذهب عرّض الكثيرين للإهانة والتهميش وغياب الفاعلية، وهذا ما ولّد عند فئات عديدة من أبناء الشعب شعوراً بالتهديد والخطر بسبب انتماءاتهم الدينية أو المذهبية أو العرقية، وعندما يشعر الإنسان بأنه مهدد تختصر الهوية في انتماء واحد يدفع إلى تبني مواقف متعصبة ومتطرفة إلى أبعد مدى، وتصبح الرؤية أحادية، فأعضاء مجموعتنا الدينية أو العرقية هم من نشاركهم المصير وهم من يعنينا أمرهم، أما الآخرون فلا تهمنا آلامهم ومظالمهم.
لقد ساهمت الحياة المقفلة والمنغلقة سياسياً في سورية، وغياب أي أفق مستقبلي ـ رغم المحاولات الجادة التي قوبل أصحابها بالسجن والنفي والتنكيل- على تعزيز الانتماءات الضيقة الدينية والمذهبية والعرقية، لأن الخوف والشك والشعور الدائم بالخطر من الآخر جعل الناس ترتد إلى انتماءاتها الضيقة، كما أن مصادرة الحريات السياسية النقابية والثقافية وتغييب المجتمع المدني المعبر عن نفسه على شكل مؤسسات أهلية محلية أو جمعيات مدنية، جعل من أماكن العبادة متنفساً والفسحة الوحيدة التي أمكن للناس أن يتجمعوا فيها ويناقشوا قضاياهم بروح تضامنية، لذلك ليس غريباً أن نجد غالبية المظاهرات في المدن والقرى السورية تنطلق من المساجد، خاصة في بداية الحراك الشعبي.. فعندما تغيب ساحات التجمع وأماكن التعبير عن الرأي يحضر المسجد أو الكنيسة بقوة، وبذلك أنتج النظام البعثي الذي يدّعي العلمانية تطرفاً دينياً وطائفياً وعرقياً تجلى في أكثر من مناسبة يعرفها السوريون في ما بينهم، وبقيت حبيسة الأسوار السورية بسبب غياب الإعلام الحر المعبر عن حركية المجتمع، ولعل قضية الأكراد السوريين أكبر تجل ونتيجة لذلك، وهي القضية التي استطاعت أن تطفو على السطح رغم التعتيم الإعلامي بحكم امتداداتها الإقليمية، والتضحيات الكبيرة التي قدمها الأكراد السوريون بحيث فشلت كل محاولات تغطيتها.
بعد الانسداد السياسي الذي وصل إليه المجتمع السوري الذي انفجر قبل ثلاثة أشهر في وجه النظام السياسي القائم، بات من الضروري على السوريين تحديد هويتهم الوطنية الخالصة والمتمايزة، التي ستشكل في المستقبل جوهرا للوحدة الوطنية الدائمة، ولا شك أن استمرار النظام القائم الفاسد سيعمِّق الانقسامات؛ مهما حاول التقليل من أشكال التفاوت والتمايز بين المكونات العرقية أو الإثنية أو الدينية في محاولاته لإنقاذ نفسه، لأن جوهر هذا النظام يقوم بالأساس على استمرار هذا التمايز، وليس أمام السوريين إلا العمل من أجل تحقيق ‘المواطنة’ كمفهوم واقعي يمكن من خلاله أن يعامل كل فرد كمواطن له حقوق وواجبات، بغض النظر عن انتماءاته، ولا يمكن لذلك أن يتم إلا من خلال الهوية الوطنية التي تتضمن أيضاً كل ما يشكل أساساً متيناً لوحدة السوريين، وتستمد هذه الهوية مكوناتها من نظام سياسي معبر عن إرادة سياسية تجعل من المواطنة قاعدة تنطلق منها مختلف المعطيات الفكرية والقانونية، إذ يتساوى الجميع أمام القانون في الحقوق والواجبات، كما تكون الهوية الوطنية معبرة عن المجتمع السوري بكل واقعية ومن دون إهمال لأي من فئاته على حساب أخرى، ولا تكون انعكاساً لفئة بعينها ولمواقف سياسية مسبقة يفرضها فريق على آخر، وهذا ما يجعلها غير قابلة للانقسام والتشظي، وتصبح هي العامل الأساسي في تفعيل الحراك السياسي والاجتماعي الذي يصبّ في بناء مؤسسات الدولة العصرية المعبرة عن طموحات جميع أبناء الشعب السوري عرباً وأكراداً، ومن مختلف الأديان والطوائف والمذاهب في إطار من التنوع الفكري والسياسي بعيداً عن التطرف والتحريض اللذين يعملان بحرية ليس لها حدود إلا سقف القانون، ولا يعني هذا انتفاء الانتماءات الأخرى أو إلغاءها أو التعارض معها وإنّما يجب استثمارها في إطار وطني جامع يعكس التنوع الثقافي والاجتماعي الغني للمجتمع السوري الذي تجسّده هوية وطنية واحدة ترتبط بكيان واحد هو الوطن السوري، وحدة تدعم وتضمن كيانه السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي عليه أن يستعيد دوره التاريخي ويستأنف مسيرته الحضارية بفاعلية أكبر تتاح لها فرص النجاح والتقدم نحو المستقبل بثقة وخطى ثابتة، فهــــل سيذهب السوريون هذا المذهب أم سينكفئون نحو الهويات القاتلة؟ هذا سؤال برسم حراك السوريين خلال القادم من أيامهم ..
‘ كاتبة سورية
القدس العربي