السوريون وسنوات الحلم البيروتي/ محمد ديبو
شكّلت بيروت في أذهان السوريين طوال عقود الاستبداد، نوعاً من “هايد بارك” لحرية مفقودة لديهم، فهي الصحف التي ينشرون بها ما لا يمكن نشره في دمشق، وهي موئل الكتب المحرّمة التي تهرّب كالممنوعات، وهي المكان الذي تنتقد فيه تلفزيوناته “القيادة الحكيمة” في “بلدينا”، ومنها تهرّب وتشترى السلع والأغذية والمواد الممنوع دخولها كي لا تهتك التأميم والصناعة الوطنية التي فتك بها الاستبداد أكثر من “التهريب” الذي كان جزءاً من منظومة سلطة قائمة على الإذلال والقهر؛ ليتشكل في ذهن أغلب السوريين تصوّر ما لبيروت تزيده المخيلة تخيّلاً.
إذ كانت بيروت حاضرة في دمشق أكثر من دمشق ذاتها أحياناً، فالصحف اللبنانية هي التي تُقرأ، والمثقفون اللبنانيون الممسكون بمفاصل النشر يعرفهم الوسط الثقافي السوري جيداً، والسياسيون والنواب يعرفهم ويحفظهم السوريون في الوقت الذي لا تمسك ذاكرتهم اسم عضو مجلس شعب واحد في بلدهم!
لكن هذا الحلم البيروتي، لم يصل مصاف الكمال، إذ طالما كان مشوشاً بمزيج من الرفض والغيرة. الرفض للكلام الطائفي الذي يصدّره البلد بالتوازي مع حريته لبلد تعلّم تخبئة مشاعره الطائفية، بفعل قمع السلطة واحتكارها الطائفية مرة، وبفعل تكوين البلد الذي شهد ولادة ونمو الفكر القومي الذي تعامل مع الطائفية باستخفاف، معتبراً أنها تزول من تلقاء ذاتها لأن القومية تجبّ ما قبلها.
وأما الغيرة فتأتي من كون الجار “الصغير والضعيف” يذكرهم يومياً بضعفهم وعجزهم ورضوخهم للاستبداد، فكل التفاتة من أنا الـ “هنا” إلى هو الـ “هناك” تذكّر بالعجز والذل والرضوخ لسلطة مستبد تنهش في البلدين، وهو ما كان السوريون يواجهونه بالقول: “ولكنه بلد طائفي”، في سعي لدفع التهمة عن خنوعهم للاستبداد لا غير.
مع اندلاع الثورة السورية ونزوح السوريين الهاربين من بطش الاستبداد إلى بيروت، بات الحلم يتعرض للهتك على وقع معايشتهم اليومية لتفاصيل الحياة وصعوبتها، ليتكوّن على وقع هذه المعايشة لكل سوري بيروته اليوم. فلو سألت قبل الثورة مجموعة سوريين عن المدينة، لتقاطعت إجاباتهم بنسبة تسعين بالمئة، في حين يستحيل أن تصل هذه النسبة اليوم إلى الأربعين، وهو أمر يتوازى مع تفكك يقينيات السوريين حول بلدهم وكل ما حولهم عموماً.
في سعي السوري في بيروت لعيش حريته التي حرمته منها أجهزة الاستخبارات في بلده، سيبدأ ذهنه تدريجياً ينسج مجموعة محرمات تفرضها المدينة، تبدأ من عدم الصدام مع سائقي التاكسي الذين تعرف ميولهم من أول سؤال يسألونه لك أو من الإذاعة التي تصدح في السيارة، ولا تنتهي عند مواجهة مضاعفات النظرة المسبقة عن السوريين في البلد، والتي يتساوى فيها أغلب اللبنانيين على اختلاف مواقفهم من ثورة السوريين، والموروثة منذ عهد “الوصاية” السورية الأمنية.
إلا أن أغرب ما سيعرفه السوريون في بيروت، أن استخبارات المجتمع هنا أقوى من استخبارات السلطة التي لا يكاد يهابها أحد، فحين زار عنصر الاستخبارات منزلي في بيروت لم أخف وتعاملت معه بأريحية، ليعود الخوف إليّ بعد رحيله، فالتعامل المريح خلال وجوده جاء بفعل النظرة المسبقة في الذهن عن “لبنان الحريات”، والخوف بعد رحيله جاء بفعل تذكر أن بعض الأجهزة هنا قد تكون تنسق أمنياً مع النظام السوري، ما يعني أن الخوف جاء عملياً من النظام السوري الذي زرع فينا شعوراً طيلة عقود أنه “مثل الله موجود في كل مكان”.
هذا الحضور “الأليف” لعنصر الاستخبارات اللبناني تقابله استخبارات المجتمع التي تشعر أنها تراقب كل شيء، فالناس هنا بفعل سنوات الحرب الطويلة وضعف الدولة وعدم ثقتهم بأجهزتها، طوّروا آليات مراقبتهم الخاصة لكل “غريب” أو “سوري” ربما!
ففي أثناء صعودك مع جارك اللبناني في المصعد، ستكتشف من أسئلته أنك تحت مرمى مراقبته بطريقة أو بأخرى، ونفس الأمر بالنسبة للبائعين والساكنين في الحارة، الأمر الذي يذكّرك بدمشق بعد الثورة، حيث بات الناس يطوّرون آليات مراقبتهم الخاصة بفعل الخوف وتضعضع ثقتهم بالدولة وأجهزتها.
لتفهم كيف وصل المجتمع اللبناني الذي عاش حرباً طويلة إلى أن يراقب بعضه البعض ويعيش مستقلاً عن الدولة حتى في الماء والكهرباء وغيرها، الأمر الذي يجعلك ترى مستقبل سورية ومجتمعها، خاصة مع الحديث بين فينة وأخرى عن “اتفاق طائف” سوري سيقونن ويكرّس (إن حصل ونأمل أن لا) التحولات العميقة القادمة من تحت بدستور من فوق، ليقترب السوريون من اللبنانيين أكثر، و”ماحدا أحسن من حدا”، ألسنا “شعباً واحداً في بلدين”؟
العربي الجديد