السوريون وقد تكبّلوا باللّحى!/ ممتاز الشيخ
اللحية الاولى التي عششت في ذاكرة الطفولة في بداية سبعينيات القرن الماضي، وهي لابن عمتي (أبو عبدالله). رجل بتقاسيم جميلة وزادت لحيته المعبّرة وجهه وداعة أخرى. كانت اللحية في تلك الأيام تعبيراً عن التديّن وقلّما تجد لحية سواها، في ذلك الزمن لم تكن لحى التشبيح (بتياراته المختلفة) والفتوّات والموضة قد نبتت بعد.
يومها كان الشباب أشد ميلاً إلى ايديولوجيا اليسار، التي اكتسحت الساحة من البعثية والناصرية إلى الماركسية ، وكلّها ادّعت العلمانية دون أساس لذلك، وكانت الأحزاب الطارئة تنبذ اللّحى بسفاهة لا تنّم عن الانتماء إلى ثقافة اليسار ، وصاروا ينظرون إلى اللحية باعتبارها ترمز إلى ماض تحكمه الغيبيات والنصوص المتحجّرة من وجهة نظرهم.
و تناطّحت الأحزاب الجديدة لزعامة شعوبها الخارجة للتو من عهود الاستعمار، وفورا غرقت (الأحزاب الطارئة) في التسلّط والفساد ، ونهب الموروث من التاريخ والعبث بالحاضر، والارتهان للآخر وصولا الى بيع المستقبل. (ليس هذا موضوعي الآن وسأبقى اسبح في بحر اللّحى)
لم تمض سنوات كثيرة حتى صار الشباب من جيلي ممّن نبت الشّعر على وجوههم حديثاً ، يبالغون في الاعتناء بلحاهم وصارت دكاكين الحلاقة أكثر كسباً من أي فترة خلت، فالشباب تعمدوا “حنجرة” لحاهم قبل موعد مشاوير المساء، في “الستة إلا ربع بدير الزور أو الحمرا والصالحية بدمشق والبارون في حلب والدبلان في حمص”.
وتمثيلاً للحى تلك الفترة اذكر لحية صديقي “أبو راشد” ، الذي أضافت لحيته غير الطويلة، والمحددة بعناية وسامة أخرى لشخصيته، وكان إذا ما احتار في أمر ما أو استغرق في التفكير يمسّد لحيته بيسراه ناثراً أصابعه حول وجهه بطريقة أقرب إلى الإغراء. وصار صديقي موضع إعجاب غالبية الصبايا التي نختلط وإياهن في مناسبات غير قليلة في سنوات الجامعة في الغربة. لحية صديقي كما لحى ذلك الجيل كانت تعبير ا عن وسامة وأحياناً خشونة رجولية محببة Hard look .
لا أجد سبباً أيديولوجياً أو وجيهاً في اصطباغ الثورة بالسواد من اللّحى التي ما إن مضت أسابيع قليلة على الحراك السوري حتى اصطبغت باللون الأسود، وراح الشباب يحرضّون لحاهم على النمو دون تشذيب بحجة انشغالهم بأمور الحراك.
من جهة أخرى كان النظام السوري أشد ما يمقت اللّحى، وفجأة انقلب على مقته وتعمّد التغاضي كلياً عن لحى مؤيديه حتى من العسكر “لغاية في نفس يعقوب” . وبهذا صارت أعضاء الحواجز المتناقضة تبالغ في تدقيق أوراق المارّة من الناس، وينظرون إليهم بازدراء من وراء لحاهم. وعلى نحو غير متوقع أمطرت الدنيا جماعات دينية ، وسلفية ادّعت محاربة النظام من خلال الرايات واللحى السوداء.
في نهاية 2012 غادرت دمشق باتجاه الرقة التي سكنها كثير من أقاربي الهاربين من الموت، تحت القصف الذي طال دير الزور، وكانت الرقة الجارة للدير مدينة وادعة وآمنة. في تلك الأثناء لم يكن لتنظيم “داعش” وجود ملحوظ في المدينة، ولكن ما إن مضت أيام قليلة على ذلك، حتى سقطت الرقة بأيديهم بشكل يخالف المنطق. الطريق الطويلة مليئة بالحواجز المختلفة، وكلّها بلحى طويلة تزيد الوجوه المعفرة بتراب البلد لوناً قاتما وحالة من عدم الطمأنينة. كما أن غالبية الشباب الذين التقيتهم خلال رحلتي، وممن أعرف اهتماماتهم الدنيوية البعيدة عن التديّن، كانوا قد تلحّفوا بلحى كثيفة دون تبرير.
مشهد اللحى أعطى صورة مشوهة عن الواقع السوري، واصطبغ الحراك الثوري السوري بلون لم يكن فيه. والتبست الحقيقة في كثير من مشاهد العنف المفرط، فالوجوه تتشابه واللحى واحدة. غالبية ما جرى في سوريا من حوادث ما بعد الأشهر الأولى من آذار 2011 غير سوريّ الطّباع، وما زلت أثق بأن الحقيقة جليّة وواضحة، وإن لم تتمكن من التعبير عن نفسها. لكن واقع الأمر مازال يشير إلى أن السوريين، مازالوا مكبّلين بعنجهية أهل اللّحى من الدواعش، والحوالش والشبيحة والمقاتلين الغرباء الذين وفدوا إلى البلد الضارب في جذوره الحضارية لغايات أخرى. جاؤوا من إيران والعراق وروسيا والدول العربية، وكلّهم لا تسعفه ثقافته أن يعبّر بالحجّة عمّا يريد من البلاد وأهلها ، وتمثّل عجزه في التعبير بإطلاق اللحية، حتى تكبّل السوريون بلحاهم .. البعيدة تماماً عن الهمّ السوري.
موقع روزنة