السوريون وهاجس التدخل الخارجي
أكرم البني
مع استمرار حالة الاستعصاء السياسي في الأزمة السورية وانعدام أية إمكانية لوقف الحل الأمني والعسكري وما يخلفه من دمار وضحايا وجرحى ومعتقلين، وتأثرًا بالنجاح الذي حصدته الثورة الليبية بمعونة خارجية، صار مفهومًا أن تَسمع أصواتًا تطالب بتدخل خارجي في الحالة السورية وترى لافتات وشعارات يرفعها المتظاهرون تدين الصمت العربي وتدعو إلى حماية دولية للمدنيين.
وصار مفسرًا أن يحتدم السجال في الأوساط الثقافية والسياسية حول دور الخارج في تعديل توازنات القوى والتأثير على مجرى الأحداث، لتتجدد عمليات الفرز، بين رافض لأي شكل من أشكال الاستقواء بالخارج مؤكدًا أن لا خير يأتي من هناك وأن التغيير الحقيقي مهما قست شروطه وزادت كلفته إنما تصنعه الذات، وبين من يجد، تحت وطأة ما يكابده الناس من قمع وتنكيل في الدور الخارجي رديفًا ضروريًّا!
يكرر أصحاب الرأي الأول حكايتهم عن الخارج الاستعماري ومصالحه وأن لا أحد يتدخل في بلد ما لسواد عيون أهله، بل من أجل السيطرة والتحكم في مقدراته وسياساته، وإن منطقتنا الغنية بالثروات الطبيعية وأهمها النفط، والتي تحتل موقعًا حيويًّا في صراع النفوذ كانت ولا تزال محط اهتمام قوى الهيمنة العالمية، مما يعني أن القبول بالتدخل الخارجي هو بمثابة فتح الأبواب على مداها لعودة الاستعمار ومناخات التبعية والتخلف والارتهان، والتفريط في المصالح الوطنية للشعوب وقضايا الأمة المصيرية، فلسطين والوحدة العربية.
ويسأل هؤلاء، هل نسيتم سايكس بيكو وكيف صاغت القوى الاستعمارية بجرة قلم دولنا وحدودها وزرعت الكيان الصهيوني ليحرس مصالحها ويرهق أسباب تطور مجتمعاتنا؟! ثم أين ذهبت نتائج ودروس التجربة العراقية وآلامها؟! وبأي حق تريدون نقل البلاد “من تحت الدلف إلى تحت المزراب” ولا تثقون بقدرة الشعب السوري على تطوير انتفاضته والنجاح في فرض التغيير بسواعد أبنائه؟!
لكن أمام شدة الأزمة وتداعياتها المريرة، يبدو أن أصحاب هذا الخطاب الأيديولوجي ليسوا موحدين اليوم ومتراصين كما نعرفهم عادة، فإلى جانب من لا يزال منهم يتمسك برفض مطلق لكل أشكال التدخل الخارجي، حتى لو أفضى به الأمر إلى الترويج لنظرية المؤامرة والطعن في مشروعية الانتفاضة وأسباب نهوضها الداخلية، ثمة من وجد، تحت وطأة الضغط الأخلاقي تجاه ما يراه من انتهاكات مريعة لحقوق الناس، مخرجًا في التمييز بين تدخل وتدخل.
فهو يرفض مثلاً التدخل العسكري أيًّا كانت صوره، لكنه يحبذ زيادة العقوبات الاقتصادية والمالية عسى أن تأتي أكلها في ردع أصحاب الخيار الأمني، وهناك من يجد في الضغوط السياسية وعزل النظام وسيلة مقبولة، وثمة ثالث لا يمانع من حدوث تدخل خارجي لكن أن يكون عربي القلب واللسان، مبديًا دعمه لقرارات الجامعة العربية ومبادرتها الأخيرة لحل الأزمة السورية، بينما يحلو لآخرين رسم حدود التدخل وأفقه على هواهم، فهو مرفوض من قبل الدول الأجنبية منفردة، لكنه مقبول تحت المظلة القانونية للأمم المتحدة ومجلس أمنها!
في المقابل ثمة من بدأ يجاهر اليوم بعرض الأبعاد الجديدة لدور الخارج في الأحداث الداخلية بفعل انتقال العالم من غلبة منطق الخصوصية إلى غلبة المنطق الكوني العام وتفاعلاته، مبرزًا أهمية العوامل الخارجية في تقرير نتائج الكثير من الأزمات الإقليمية والصراعات الوطنية، ومقررًا أن سير بعض الأحداث ونتائجها يتوقف إلى درجة كبيرة على مدى حضور الإرادة الدولية وطابع قراراتها، ويعتبر هؤلاء أن من لا يتفهم هذا الجديد ولا يأخذ في الاعتبار المعنى الحقيقي للقول بأن العالم أصبح قرية صغيرة وما يعنيه ذلك من قراءة لشدة التأثر والارتباط بين مكوناتها، سيبقى عاجزًا عن الفعل وأسير أفكار أيديولوجية وأوهام عن الوطن والسيادة كصورة من صور الانعزال التام عن العالم!
وعلى الرغم من أن الحراك الشعبي أصبح شاملاً وامتدت الاحتجاجات في كل مكان وعجزت مختلف وسائل القهر عن كسرها وإجهاضها، يرى هؤلاء أن احتمال التغيير الداخلي الصرف في الشروط الملموسة هو احتمال ضعيف أمام نظام يمتلك ترسانة أمنية وعسكرية هائلة ولن يتردد في توظيفها لمصلحته أو يتوانى عن استخدام كل أساليب القمع والتنكيل طلبًا للحسم! ثم يذهبون إلى الاستقواء بالتاريخ الوطني العريق للشعب السوري وتضحياته الكبيرة في مقارعة الاستعمار والصهيونية، وأن الذي امتلك الإرادة اليوم لكسر جدار الخوف والتمرد على الظلم لن تعوزه الإرادة والصلابة لمواجهة شطط التدخل الخارجي إن حاول النيل من حرية الوطن وسيادته واستقلاله!
وبدورهم، يسألك أصحاب هذا الرأي، أي مصير كان ينتظر ثوار ليبيا لولا التدخل الغربي الذي رد كتائب القذافي عند مشارف بنغازي؟! ومن يضمن أن لا يستمر النظام السوري طويلاً وينجح في إرهاق المحتجين وتثبيط هممهم؟! ثم لم تعيبون على الناس الاستقواء بحماية دولية ولا تعيبون على النظام توظيف تحالفاته الخارجية من أجل إدامة سيطرته واستجرار الدعم والقدرة على مواجهة الاحتجاجات والتنكيل بها؟!
ولم لا تعذرون المتظاهرين وتتفهمون أن مطالبتهم بالحماية الدولية هي رد فعل غريزي للحفاظ على الحياة وجاءت بعد أشهر من مكابدة لا تطاق؟! ولماذا تغفلون حقيقة أن دور الخارج جاء أساسًا كرفض أخلاقي للعنف المفرط قبل أن تفرضه حسابات المصالح السياسية، بل هذه المصالح هي التي وسمت الموقف الغربي بالبطء والحذر، ولجمته من الوصول إلى مستوى السرعة والوضوح تجاه الحالة السورية بالمقارنة مع الأحداث العربية الأخرى؟!
إن تقدير موقع النظام السوري إقليميًّا ودوليًّا ودوره المتشابك مع الكثير من الملفات الشائكة والحساسة، والخشية من حصول هزة في أسباب الاستقرار السياسي في المنطقة يفسر تردد الغرب وإرجاء دعوتهم إلى تغيير النظام، مثلما أن تصاعد حدة التوتر في الأزمة السورية واستمرار معالجتها بالطريقة القمعية والعنيفة دفع بالتقديرات الغربية إلى مطرح معاكس، حيث أصبحت ترى في استمرار ما يجري سببًا رئيسًا يأخذ المنطقة إلى الفوضى، الأمر الذي يفسر بعض الإشارات والمعطيات الدالة على تنامي الرغبة لدى أطراف دولية وإقليمية وعربية في معالجة سريعة لحالة الاستعصاء السوري حتى لو تطلب الأمر تدخلاً مباشرًا.
صحيح أن النخبة الحاكمة تتصرف كأنها لا تأبه بالمواقف الدولية والعربية، وواجهت الاحتجاجات كأنها تتمتع بحصانة تجاه استخدام أشنع وسائل القمع والتنكيل، مستهترة بالمعالجات السياسية وبالدعوات المتعددة إلى البدء في إصلاحات جدية تخفف حدة التوتر والاحتقان، وصحيح أن ردود الأفعال الخارجية لا تزال بطيئة ومترددة ولم تكن على مستوى الحدث السوري، لكن الصحيح أيضا، أن استمرار الانتفاضة الشعبية بهذه الصورة البطولية، وما قدمته من ثمن باهظ في أعداد الضحايا والجرحى والمعتقلين، زاد بشكل كبير مساحات التعاطف الأخلاقي مع السوريين من قبل الشعوب والمنظمات الحقوقية والمؤسسات الإنسانية، مما أحرج السياسات الرسمية وأكرهها على التلاقي موضوعيًّا في رفض استمرار ما يحصل والبحث عن مخارج عاجلة للأزمة!
وبعبارة أخرى، إن اكتظاظ المشهد السوري بصور الضحايا وتخبط نظام لا يريد التراجع عن توغله في الحملة الأمنية، أو ربما لا يستطيع ذلك إن أراد، فضلاً عن حصار وعزلة سياسية وعقوبات اقتصادية ومالية لم تجد نفعًا، يضع مع كل يوم يمر الأطراف الغربية والعربية أمام المزيد من الإحراج الأخلاقي والإنساني، ثم أمام خيار استثمار ما يحصل لإحداث تغيير جذري في سوريا يكرس استمرار الأمن والاستقرار في المنطقة، حتى لو اضطروا كما ألمح بعضهم إلى التدخل العسكري، كالكي آخر العلاج، لتحقيق هذا الهدف.
لقد لمسنا تصاعد لهجة الدول الغربية المنددة بممارسات النظام إلى أن أعلنت غالبيتها فقدانه لشرعيته ودعته إلى التنحي، وزادها حماسة نجاح التدخل العسكري في إسقاط القذافي وتغيير الصورة التي رسخت في الأذهان عن التجربة العراقية وآلامها، مما يفسر العودة الأخيرة المحمومة للمسعى الفرنسي البريطاني لتمرير قرار في مجلس الأمن يدين الاستخدام المفرط للقوة ضد المتظاهرين ليكون مقدمة لتصعيد دور الأمم المتحدة في متابعة تطورات الأزمة السورية وتقرير مصيرها.
ولعبت سياسات الحكومة التركية دورًا ضاغطًا يتكامل مع التصعيد الغربي، وإن بدت متفاوتة الشدة والوضوح ونأت بنفسها عن اتخاذ موقف حاسم من تغيير الحكم السوري، ما دامت حساباتها ترتهن لمرتكزات بالغة التعقيد، فهي وإن فقدت الثقة بالنظام، لا تريد القطع معه وخسارة ما تم بناؤه طيلة عشر سنين، وهي وإن تخشى احتمال تنشيط حزب العمال الكردستاني الذي تربطه بالنظام السوري صلات وثيقة، لا يمكنها أن تصم أذنيها وتهمل الأصوات المتعالية في الداخل التركي أو على الصعيد العربي والإسلامي المنتقدة لسياستها المترددة والمهادنة، الأمر الذي يفقدها تدريجيًّا صبرها وقدرتها على التحمل، ويرجح بعض المراقبين أن يؤهلها ذلك، وهي المنضوية في حلف الناتو، للعب دور مفتاحي في التسخين السياسي والميداني، مثلاً بإثارة أوضاع اللاجئين السوريين كقضية إنسانية لا تحتمل الحياد، أو إعلان منطقة عازلة على الحدود المشتركة بين البلدين لحماية المدنيين من البطش والتنكيل، ومن هذه القناة يمكن النظر إلى تصريحات رئيس الوزراء أردوغان بأن الحكم السوري سيسقط عاجلاً أو آجلاً وبأن سوريا تتجه إلى وضع شبيه بالوضع الليبي!
وحين تبادر السعودية ودول أخرى في مجلس التعاون الخليجي إلى سحب سفرائها للتشاور، وتعلن قطر ومصر فشل الحل الأمني وتدعوان إلى وقف العنف فورًا وتلبية مطالب الناس، فهذا يؤكد تبلور مصلحة عربية مشتركة تطالب بضرورة التغيير العاجل في سوريا وتجد أن بقاء المشهد على هذه الشاكلة مع تنامي أثاره سياسيًّا وشعبيًّا، أمر لا يحتمل! وليست المبادرة العربية التي عرضها الأمين العام للجامعة العربية على الحكومة السورية سوى خطوة أولى على هذه الطريق، يمكن أن تتبعها خطوات أكثر أهمية يرجح أن تأتي بالتنسيق مع المجموعة الدولية.
إن وضوح هذه المؤشرات والمعطيات، لا يعني أن التدخل الخارجي في الأزمة السورية سوف يذهب إلى مداه الأبعد في وقت قريب، بل هو مشروط أولاً بقدرة الانتفاضة الشعبية على الاستمرار والامتداد وتكريس سلميتها، وثانيا بتغير موقف إسرائيل ذي الأهمية الكبيرة، ليس فقط لأنها الجارة المحتلة لأرض سوريا والتي حظيت بحدود آمنة لعقود من الزمن مع النظام الراهن، وإنما أساسًا لقدرتها على التأثير في المواقف الغربية التي تضع “أمن إسرائيل” في رأس أولوياتها، وثالثا، بتوفير غطاء دولي أو قرار أممي يتطلب تحييد الموقف الروسي، والأهم توافق كل الأطراف على تصور للبديل المرجح لقيادة العملية الانتقالية، ثم على أسلوب هذا التدخل وحدوده بحيث لا يفضي إلى زعزعة استقرار المنطقة برمتها في حال اعترضته قوى داعمة للنظام، كإيران وحلفائها.
الأزمة السورية تتفاقم، ويرجح دخولها في أطوار جديدة، وإذا كانت العوامل العربية والإقليمية والدولية مرشحة للتقدم بفاعلية أكبر لمواكبة ما يحصل على الأرض، فإن المرء لا يحتاج إلى التأمل كثيرًا كي يكتشف من يمتلك زمام المبادرة لوقف هذا المسار!
إن الإصرار على الخيار الأمني والتوغل أكثر في العنف والتنكيل، ورفض الإذعان لتغيير سياسي جذري، وأوله الاعتراف بالأزمة وإزالة أسبابها المستمدة من استمرار النظام القائم على القمع والتمييز والفساد والإقصاء، هو أحد أهم الأسباب التي تترك البلاد نهبًا للتدخلات الخارجية!
الجزيرة نت