السوريون يسرقون أنفاسهم من بين براثن الموت/ سعاد قطناني
يمضي موكبه مكللاً بالخراب والدمار، كل شيء رمادي تنبعث منه رائحة الموت، العسكر المدججون بالموت يحيطون به ويهتفون بحياته بطقس لاهوتي يزيده هستيريا عندما يعلن بملء فمه: انتصرنا! لم يبق سوى بعض البؤر، نقضي عليها ببعض موت لا أكثر!
منتشياً بصورته التي مازالت معلقة على آثار جدار، وبقايا خوف يعشش في القلوب، مترئساً هياكل الموت وبعض الخائفين، وجوقة من المتحدثين تنفخ في الزبد الذي طغى على سطح الثورة، من داعش وأخواتها وتضخمه لتثبت أن مآل الثورة ونهاياتها ستكون أسوأ مما كان، محاولة اثبات ذلك الشعار التشبيحي الذي صيغ فوق رقاب أهالي بلدة البيضاء في بداية الثورة: ‘هاي هي الحرية اللي بدكن إياها’.
الشاشات تشتعل بالحديث عن النصر، ولعاب المتحمسين يُنفث عبر الشاشات على وجوه المشاهدين، أي نصر ورياح الموت تجرجر نفسها، تنفث سمومها، وتوزع كراهيتها، فكل شيء في المدينة اشتعل: وباء يقتل الأطفال، نار تحرق جذور الحب بين الناس، قتل بالسكاكين والهواء والماء والخبز والدخان الأصفر، قتل بالقنابل والقذائف، قتل يحاور القتل، موت يحاكي الموت وكأنه حُكم على السوريين أن يرتطموا بكل هذا الألم، وأن يسرقوا أنفاسهم من بين براثن الموت، حتى يعرفوا أنهم يرتشفون جرعة حياة ارتمت بين سكرات الموت، موت تكدس لهاثاً وصراخاً وجلل وطناً اختصره الهتافون للحظة صمت بين طلقة وصلية كي يعلنوها لحظة نصر.
هل كل هذا الموت يعني أنه انتصر حتى لو حكم وطناً تقلصت مساحته لتغطي مساحة كرسيه، وتُوج مع الغربان ملكاً للبلاد العتيقة العريقة!
لم يأت كل هذا الحماس بالصدفة ولا هو حالة طارئة ولا كمية الهراء الذي يسيل من بعض الشاشات عن النصر هو وليد اللحظة، بل هو نتاج أربعين عاماً ونيف من تقزيم الوطن ليصبح على مقاس الرئيس، ليصبح مجرد بقائه بعيونهم نصرا، فشريط فيديو لأغنية حفظناها عن ظهر قلب مثل أغنية ‘سورية يا حبيبتي’، ما هو إلا تجل لهذا النهج الذي حاول تدجين وجدان المواطن السوري، وإقناعه أن نجمتين ونيشانا على صدر ‘القائد’ هما معنى الوطن، واستلهام صورته كرمز هو قمة الوطنية، فما ان نسمع ‘سورية يا حبيبتي….’ حتى تظهر صورة حافظ الأسد تغطي مساحة الشاشة، وتغيب كل معالم سورية الوطن والحضارة! فهو الوطن وهو المدرسة، هو النصر وهو البقاء. حين كانت تعلق صوره في كل مكان وتبث تلك الصور صباح مساء على الشاشة، لم يكن ذلك عبثياً أبداً، فالتاريخ والمستقبل ما هما إلا فواصل قصيرة من حياة ‘القائد’، فهو الطالب الأول والمعلم الأول والثائر الأول والقائد الأزلي. في سورية نسيت الشوارع تاريخها وتسمت باسمه، والجامعة أصبحت تجلياً من تجلياته، والمسرح والغناء خلقا للتغني باسمه! فليس غريباً على من تربوا تحت وطأة هذا السيل الجارف من الشعارات التي تمجد ‘الأب القائد’ أن يتماهوا بالمتسلط ويطرقوا أسماعنا بكلمات اهترأت بفعل التكرار، ليثبتوا أن كل هذا الخراب والموت الجاثم فوق أرصفة الشام هو نصر.
عن أي نصر يتحدثون وهواء الطائفــــية يصفر في البلاد ويحوم كغربان الموت فوق الرؤوس وينفث الهواء الأصفر على المدينة، ينشر الخراب فوق الشبابيك العتيقة، والرياح ثقيلة معبأة برائحة الموت والخوف، تزيد من ثقل الحزن الجاثم فوق القلوب كصخرة، ولا يطمئن الروح الهاربة من موت إلى موت! أين النصر حين رُفعت الأعلام الصفراء لتدعي أنها تدافع عن مقام ‘السيدة زينب’ والمقام نائم في بيته وبين أهله؟ أين النصر حين أشعل نار الطائفية المسعورة في كل مكان واستجلب طبول الحرب بين الأهل والأخوة والأقارب والجيران واستنبت الخوف من الآخر في القلوب؟
أين النصر عندما استدرج الماضي وبؤر الليل السوداء من التاريخ لتسكن جغرافيا الوطن، كبّرها ونفخ في صورتها لتصبح المعادل الموضوعي لغيابه. تختلف اسماؤهم وتختلف مللهم وملاليهم ويبقون صوت الموت الذي اقتحم البلاد لينشر عبثه في المكان، يجرجرون أثواب الماضي ويعاودون نسج الحكايا ليستنبطوا الموت من اجترار الحقد… يشدون الحاضر إلى التاريخ بحبال ذاوية، يستحضرون الأسماء من كتب التاريخ ويعلقونها على مشجب الموت كعنوان للآتي من الأيام. هواء الطائفية أخذ يعصف بالبلاد، أخذ يعشش في هوائها، في حجارة بيوتها، ينحدر إلى الطرقات الحزينة، يمشي مختالا في المدينة، ينفث ريحه الكريهة على الذكريات والحاضر وما يمكن رسمه من مستقبل، هواء الطائفية الأصفر يباهي بنفسه في المدينة يرفع الرايات الصفراء والخضراء والسوداء محاولاً حرف حلم الحرية والكرامة إلى كابوس ليل طويل.
أي نصر عندما يسيل من أطراف أصابع الموت اكثر من مئة ألف روح مسكونة بحلم الحرية، عندما ينزف الوطن أبناءه على الحدود مسربلين بالبرد والجوع والخوف، ينزف أجساداً طافية فوق موجة حلم بالحرية على ضفاف المتوسط؟ أي نصر هذا حين صار الخواء سيد حارات تصفر فيها رياح الحزن والخراب واستبد بها الشوق إلى أبنائها ونخر الموت عظام بيوتها؟
وبعيداً عن رومانسية الكلمات والغوص في نهايات الموت والخراب، بعيداً عن الوجع ومآلات الدموع، إذا ما نظرنا إلى النصر الذي يتشدقون به من زاوية الممانعة واستحضار الكلمات الكبيرة عن التوازن الاستراتيجي مع العدو الصهيوني والقوى الإمبريالية، فأي نصر ذلك الذي يزعمه النظام عندما يسلم سلاحه الكيماوي صاغراً وعلى طبق من ذهب؟ أي نصر عندما يستبيح الطيران الإسرائيلي الوطن ولم يعد النظام قادراً حتى على التوعد بالرد بالوقت المناسب أو غير المناسب؟
النصر لا يمكن أن يكون لمن انهزم الإنسان فيه، النصر أرقى وأعظم من أن يُرسم نيشانا على بزة الديكتاتور متسلقاً دموع الأمهات وخوف الأطفال وموت الأحبة، النصر ذاكرة حب يحملها طفل بين ذراعيه ووشم حرية تلون بدماء الحالمين بغد أفضل ولحظة انعتاق الروح من وراء القضبان.
أما القتل والجرائم التي ارتكبها النظام فما هي إلا محاولة لدفع الهزيمة التي ارتسمت على وجه الطاغية، حين صرخ السوريون بوجهه ‘الشعب السوري ما بينذل’. والخراب والدمار ما هو إلا انتقام من لحظة الهزيمة التي تحسسها حدس الطاغية وحاشيته، ولم تكن محاولة النظام مستفيداً من خبراته في خلط الأوراق ومساواة غياث مطر وهو يرفع وردته الحمراء فوق كروم العنب في داريا بمن رفعوا راية السواد على جبين الوطن إلا تشويش للرؤية ومساواة للحرية مع الخراب، والحياة مع الموت. لم تكن كل تلك المحاولات إلا تعبيراً عن فعل هزيمة يستجدي النصر من الضباب وغياب اليقين من البقاء.
أما النصر فهو درب من الآلام دقته الأصابع الصغيرة في درعا كنقش في التاريخ تستكمله قلوب هزمت خوفها من الطاغية. النصر هو الحناجر التي تحسست صوتها وعرفت معنى الحرية خارج سياق الشعار الأبدي للبعث، عرفت ألا درب أمامها إلا درب الحرية والكرامة بكل وجعه. النصر هو القلوب التي عرفت أنها تمشي إلى مستقبل لا مخبرين ولا خوف فيه. النصر هو انتصار الوطن لقيمة الإنسان على الأرض. النصر ليس موت الطاغية ونهايته بل هو موت الخوف من الطاغية في القلوب وإحياء الوطن كنبضة من نبضات القلب.
‘ كاتبة سورية
القدس العربي