السوري في دوامة العنف والموت/ سوسن جميل حسن
الأفران وحدها تعطينا صورة مؤلمة عما وصل إليه الإنسان السوري تحت رحمة دوامة العنف وطواحين الموت. ازدحام يفوق الوصف، نظرات ضارية، ليست البطون الجائعة وحدها من ترسم هذه النظرات، لكن هناك شيئاً أكبر وأعنف في اللاوعي، هناك نزعة ملتبسة يخلقها الموت، الموت المبتكر بنيات لئيمة، الموت الذي توّجه شبح الحرب القادمة، مثلما لو أن سوريا ما زالت مزدهرة تنعم بالسكينة وترف العيش ولم يحصد الموت ما يفوق المائة ألف ضحية من أبنائها، ولم تدمر مدنها وقراها وأحياؤها، ولم تتداعَ مؤسساتها وبناها التحتية، ولم ترخص عملتها حدّ انعدام وزنها فلم يعد أحد يرضى بمجرد التفكير بالتداول فيها ممن يعملون في تصريف العملات.
هذا المشهد الذي يكشف الغطاء عن جانب خطير علينا الإقرار بوجوده، يتكرر بطرق مختلفة، فبرغم الاحتفاء الذي تجلى واضحاً في الشطر الأول من الأزمة السورية بالنازحين من بقية المناطق، وبرغم النشاط الإغاثي الذي تقوم به بعض المجموعات والمنظمات الأهلية، فإن علامات التذمر بسبب ضيق العيش بدأت تلوح على سلوك الناس، فلم يعد خافياً تذمر أصحاب المهن بكل درجاتها من منافسة العمالة الوافدة من بقية المناطق، تلك التي تقلل فرص العمل والعيش عند سكان المناطق المضيفة الأصليين، وهذا نسمعه في الشارع، عند بياع الخضرة، على لسان سائق التاكسي، وغيرهم. لم يعد العامل المذهبي أو الطائفي هو الدافع، بل صار عامل الوجود وتهديد الحياة. لا يهم إن كان أخاً أو جاراً أو ابن المنطقة أو وافداً هارباً من الموت ما دامت فرص العيش صارت محدودة، والحرب على الأبواب. هذا السلوك يتستر بروح التهكم والمزاح والادعاء بأن الحرب القادمة لا تهزهم.
بقدر الخوف من المجهول الذي تعاظم مع تقدم الأزمة السورية وتعقدها وازدياد العنف بكل أشكاله ومن قبل كل الأطراف، بالإضافة إلى الجغرافية السياسية الجديدة للخريطة السورية، نرى السلوك العبثي والخطاب العبثي أيضاً يميزان تعاطي الغالبية السورية مع المستجدات الأخيرة بالنسبة للوضع، وهي الحرب التي تبدو، بحسب الرصد الإعلامي المركز والموجه، وتصريحات زعماء الدول الكبرى، أقرب مما نتوقع.
سلوك المواطنين السوريين ينم عن وجود طبقتين من الوعي أو اللاوعي، تحكمانه، بل يكاد يكون مصاباً بنوع من الفصام المربك، فعلى مدى ثلاثين شهراً من العبث القاتل المدمر، صار الموت بالنسبة للسوريين غولاً يتربص بهم في كل لحظة، موت قائم وحداد مستمر ودمار بتعاظم وإعلام مستبد، جعل من المواطنين في هذه البقعة، شريحة مستهدفة يبث إليهم إرسالياته من أفكار وصور تصوغها فرق عالية التدريب والخبرات والكفاءة، بحيث ساهمت بحرب كانت من أخطر أدواتها.
العنف وتهديد الحياة سوف يترك بصماته الشرسة على طبائع البشر إذا استمر، فكيف والناس على مدى هذه الشهور يعيشون بين براثن العنف المهدد لوجودهم؟ تتراجع الثقافة الموروثة والأعراف والقيم إلى مراتب دنيا، بل تدفع باتجاه الزوايا الأكثر عمقاً وتعتيماً في الوعي، أمام تهديد الحياة لا تترك الروح جسدها لتحلق في عالم المثاليات والأحلام، بل تلتصق به حدّ الاندغام الكامل والامتثال لنداءاته، والجسد يجيد النداء والفعل عندما تستبد به الغريزة، والغرائز كانت الهدف الأوسع والأهم الذي تشتغل عليه الحروب وقادتها.
في حرب، مثل الحرب السورية، كان الاشتغال على الغريزية من أهم وأبكر الأولويات في إدارتها، التجييش الطائفي والمذهبي والإثني والمناطقي، وشحن النفوس وحقن الصدور كان مدروساً واشتغلت عليه الأطراف كلها، فكانت النتيجة قتل الجانب القيمي من وجدان المجتمع، فصار انعدام الإحساس بالآخر ليس فقط هو الناظم لردود الأفعال والسلوك الواعي أيضاً، إنما حرمان الآخر من فرصة العيش. والانتقام منه النزوع إلى قتله، ولو بنوازع خلفية وسلوك قد لا يحمل ملمح القتل. يكفي أن يفكر الفرد باحتكار مقومات الحياة بكل ما استطاع من سبل دون التفكير بالآخر حتى نفكر بأنه لا يطبق القاعدة التي تقول: اللهم أسألك نفسي، فقط، وإنما هناك نزعة مبطنة مغلفة بامتلاك الحق بتطبيق هذه القاعدة، نزعة حرمان الآخر من فرصة العيش والاستئثار بها. يعزز هذا السلوك تجار الحروب وآليات الاحتكار وأرباب الفساد الذين يبتكرون كل يوم أساليب جديدة لإنعاش بذور الفساد.
هذا بعض من ملامح الخراب طويل الأمد الذي خلفته ولم تتوقف بعد الأزمة السورية، الخراب الذي يتطلب بعداً زمنياً أطول وجهوداً أكبر ومسؤولية أدق في المستقبل لإصلاحه.
السفير