السوري ليس له ديّة!/ عارف حمزة
أصبح لدينا ثورة على الاستبداد، وأصبح لدينا مئات القتلى تحت التعذيب الشديد، وآلاف القتلى بصواريخ سكود والقنابل الفسفورية والعنقودية والهاون والكيمياوي والبراميل المتفجرة. وأصبح لدينا ثمانية ملايين نازح توزعوا على أرض الله، وعلى أرض الله الواسعة! حيث نزح أبناء المدن المنكوبة إلى المدن الأخرى التي ما زالت آمنة نوعاً ما، وتنتظر حصتها من البطش وحملات التأديب، في تغيير ديموغرافي يُثير الريبة. بينما لجأ ونزح مئات الآلاف إلى الدول المجاورة، وكثير منهم أكمل طريقه نحو أوروبا.
صرنا نشبه الفلسطينيين في نزوحهم ولجوئهم ونكبتهم؛ فصار ما يقارب نصف السوريين من اللاجئين والنازحين، بينما النصف الآخر يعيش في رعب الإقامة الجبرية.
وفي لجوء السوريين تم تأليف حياة جديدة، من تحت الصفر، مرتجلة، في كثير من الأحوال، ومريرة وقاسية في شتى الأحوال. وفي الوقت الذي كانوا فيه موضع ترحيب وتعاطف، صاروا موضع عنف، في المعيشة على الأقل، يدعوا لطردهم من الأراضي الشقيقة والصديقة التي ضمتهم كلاجئين مؤقتين ومجبرين، يُديرون وجوههم، أنى توجهوا، نحو دولتهم، دولة النازحين.
مصر أم الدنيا، ولكن ليست أماً للسوريين!
كانت من علائم بداية الثورة السورية هو تضامن الشباب السوري مع الثورة المصرية، التي أطاحت بحسني مبارك، ومع الثورة الليبية، التي أطاحت بالعقيد معمر القذافي، في اعتصامهم الشهير أمام السفارة المصرية بدمشق، مطالبين برحيل مبارك. وشاركوا أفراح المصريين في ساحات التظاهرات التي اندلعت قبل السقوط المدوي لمبارك. وكان سقوطه بحد ذاته ما راهن عليه السوريون في سقوط قرينه الفاسد في قصر المهاجرين.
ومع بداية عمل الآلة الحربية للنظام الأسدي، ولجوء الكثيرين إلى مصر، والقاهرة بالذات، أكمل السوريون ثورتهم، معنوياً، من خلال المشاركة في الاعتصامات والأفراح التي كانت تحدث هناك. وكان مرحّباً بهم بشدة، في مرحلة حكم مرسي بخاصة، وكانت الجمعيات الخيرية الإسلامية تجمع التبرعات باسم السوريين، وتوزعها عليهم بشكل عيني. وقدمت الحكومة المصرية خدمة التعليم المجاني في كافة المراحل، أسوة بالمصريين، من دون تقديم ضمان صحي ولا مخيمات.
بدأت معاناة السوريين هناك بعد أن خرج السيسي وألقى بيانه الشهير بالانقلاب على حكم الإخوان.
وفي الوقت الذي كان متوقعاً فيه أن يرضى الإخوان بحكم العسكر، وينتهي الموضوع بشكل انتقالي هادئ، أعلن الإخوان عن رفضهم للأمر، وقالوا بأنه انقلاب على الشرعية. ونظموا التظاهرات في كل مكان. وصار هناك تهييج، من خلال إلقاء القبض على قيادات الإخوان، وصل لمرحلة حمل السلاح الفردي، ضخمته قنوات إعلامية عديدة بأنه تم تشكيل “الجيش المصري الحر” لمواجهة “شبيحة السيسي”. والمواطنون صاروا يشعرون بوجود مؤامرة، إعلامية على الأقل، لجر مصر إلى اقتتال أهلي طويل، شبيهة بالحالة السورية. وما زاد هذا الشعور بالمؤامرة، هو تصريحات كبار مسؤولي الإخوان بطلب التدخل العسكري الدولي “لوقف المجازر التي يرتكبها الإنقلابيون في مصر”. وقول حازم أبو اسماعيل بأن المجاهدين في سوريا سيأتون لتحرير مصر، بعد تحرير سوريا! وكذلك من خلال ترحيب الأسد نفسه بسقوط مرسي وحكم الإخوان في مصر.
وبسبب وجود تعاطف من بعض السوريين مع الإخوان، والمشاركة في بعض مسيراتهم، ظن الناس بأن سيناريو المؤامرة يمشي في طريقه السوري لحل الأزمة في مصر، بإيصال دولة الخلافة الإسلامية إلى شمال أفريقيا! وهكذا تم وضع السوريين في سلة الإخوان.
حتى المثقف المصري، أو الشباب الجامعي المصري، فترت حماسته تجاه الثورة السورية، ليصل الأمر، بمساهمة من بعض القنوات المصرية الخاصة، والصحف القومية، التي تدافع بصفاقة عن فاشي مثل بشار الأسد، إلى فهم خاطئ لما يجري في سوريا؛ لدرجة أن الإعلامي باسم يوسف رأى، وروج، بأن الأزمة السورية هي “دبابة قصاد دبابة”. وهذا ظلم كبير من “ذوي القربى”، وعلينا أن نقدر العذاب النفسي للكثير من السوريين الذين صاروا هناك، ناجين، ربما بالصدفة، من المذابح والمجازر الوحشية، بسبب المطالبة بالحرية ودولة القانون والمواطنة…
وربما هذا ما جعل الأمن المصري، الذي يُنفذ توجيهات السيسي ورفقاه في مجلس قيادة “الثورة” ضد مرسي والإخوان، يتعامل بسوء كبير مع اللاجئين السوريين، ولا يقوم بالتحقيق الجدي للقبض على الذين قاموا، ويقومون، بالاعتداء على بعض العمال السوريين هناك، أو عدم إعطائهم حقوقهم وفق القوانين النافذة، أو الذين قاموا بتكسير العديد من المحلات التي افتتحها السوريون. وكذلك بإرهاق السوريين في الحصول على تجديد لإقاماتهم المنتهية، ويُطالبون البعض، من المعروفين بمناهضتهم لنظام الأسد، بمراجعة السفارة السورية، أو بالعودة إلى دمشق! كما أن السفارات المصرية ما عادت تعطي الفيزا للسوريين، المتواجدين في دول أخرى، للسفر إلى مصر للقاء أهلهم، أو للسياحة حتى.
السوريون ملأوا مدناً كانت فارغة تقريباً، كمدينة اكتوبر والرحاب وغيرها، بإيجارات وكفالات، قد تصل، كما يحدث حالياً، لحجز جوازات سفرهم لدى المؤجر، وصار هناك أحياء بكاملها من العائلات السورية، لدرجة أن هناك شارعاً في مدينة اكتوبر يُسمى “شارع السوريين”.
وبسبب حاجة السوريين للعمل، لتأمين لقمة العيش بكرامة، ارتضوا في أن يشتغلوا في المصانع والمعامل بأجور أقل من العمال المصريين، قد تصل في كثير من الأحيان إلى النصف. وبسبب أن مصر تعيش حالة من الاضطرابات منذ ثلاث سنوات، ولأن نسبة هائلة من المصريين لا يحصلون على رواتب جيدة، أو عاطلين عن العمل، شاعت حالة من الازدراء تجاه السوريين بسبب استحواذهم على فرص العمل، و”سرقة اللقمة” من يد المصريين. ما جعل البعض يقوم باعتداءات، هي فردية في كل الأحوال، لزيادة الضغط باتجاه حرمان السوريين من العمل، أو حتى طردهم من “أم الدنيا”.
في المناطق الشعبية تكون المصيبة أكبر؛ إذ المثل السائر هناك هو أن “السوري مالوش دية”، أي إذا قتله أحد ما فلا يدفع دية لأهله. وهذه الجملة تحمل من الفظاعة ما تحمل.
كما أنه هناك من يصرخون في وجه السوري :”انت خربتَ بلدك وعاوز تخرب بلدنا”. و”انتو كابسين على نفسنا. ارجعوا بلدكم”. ومن تلك العبارات التي تدل على عدم الترحيب، والدعوة جهاراً إلى طرد السوريين، الذين كانوا في يوم ما “أجدع ناس”، من مصر كلها.
في مرة مقبلة سنكتب عن المآسي التي يتعرض لها السوريون في تركيا ولبنان والأردن وكردستان العراق، وسنقتصر هنا على أحوالهم في مصر بسبب الشرح الطويل الذي تقدم.
سألت صديقاً مصرياً لي، يقيم في الجيزة وجامعته في أقصى شرق القاهرة، قبل أيام إذا كان هناك سوريون “يشحذون” في الشوارع بكثرة، كما تقول بعض القنوات والصحف هناك. فأجابني بأن للسوريين محلات كثيرة يراهم يعملون فيها وهو يذهب إلى جامعته. ويرى العشرات من الشحاذين المصريين، ولكنه لم يصادف شحاذاً سورياً في طرقاته، وإن وُجد، كما يقول البعض، فإن النسبة تكون واحد بالألف من الشحاذين المصريين. ثم ضحك وأكمل: “يا عمي هو انت ما تعرفش؟ دي القاهرة هي مدينة الشحادين…”.
المستقبل