السوط في اليمنى وكاميرا النقال في اليسرى/ عمر قدور
يُفترض بنا عدم التوقف عند تسجيل جديد، يهين فيه أحد من قوات الأسد مدنياً مغلوباً على أمره، إذ يُفترض أن نكون قد اعتدنا على هذا النوع من التسجيلات، مثلما اعتدنا على أخبار المجازر اليومية. إذاً، ليس جديداً أو مدهشاً على الإطلاق تنكيل شبيح برجل وزوجته في التسجيل الجديد، بزعم ظهور الرجل الذي تجلل وجهه علامات البساطة الشديدة على قناة الجزيرة القطرية، وليس جديداً بالقدر ذاته أن تُجبر الزوجة على وصف زوجها بـالكُرّ «الجحش في العامية السورية»، وأن تُجبر هي وزوجها تحت الضرب على النهيق كما يفعل الجحش. طوال الدقائق الفائتة، سنرى اليد اليمنى التي تنهال بالسوط على الزوجين المقيّدين، حتى أُرغم الزوجان على النهيق، حينها تقدمت يد الجلاد اليسرى بكاميرا الهاتف النقال لتخلّد لحظة انتصاره ونشوته، اللحظة التي يُتوقع أن يزهو بها بين معارفه وأقربائه.
في الزاوية اليمنى من التسجيل، يظهر مراهق هو على الأرجح ابن للزوجين، يبدو مُكوّماً طوال الوقت بلا حراك وهو يرى ويسمع الإهانات الموجهة لذويه. قد نفترض، جرياً على عادة التحليل الدارج هذه الأيام، أنه سرعان ما سيحمل السلاح ويلتحق بأحد الفصائل المتطرفة. التحليل الذي كما نعلم لن يتوقف عند هذا الحد، فجانب من أصحابه سيرى في ذهاب الولد إلى التطرف سلوكاً منطقياً ومبرراً، وجانب آخر يرى فيه «انزلاقاً» إلى الفخ الذي صنعه الأسد لوضع الجميع أمام المفاضلة بينه وبين التطرف. ووفق وجهة النظر الأخيرة صنع هذه التسجيلات ونشرها مقصودان تماماً، ضمن خطة ذكية يعمل عليها النظام لصنع التطرف.
لمن يذكر، هناك تسجيل نُشر قبل سنتين يتسلى فيه واحد من قوات الأسد برجل حلبي، يعرض عليه اغتصاب زوجته مقابل الإبقاء عليه حياً، يردد الرجل بما يشبه العويل: «مرتي… بنت عمي… تاج رأسي». يومها عُدّ كلام الرجل في جانب منه دلالة على الصمود أمام الإذلال، الصمود الذي لم تقدر عليه الزوجة في التسجيل الجديد وهي تُرغم على وصف زوجها بـ «الكر». صمود غير مطلوب منها بالأحرى، لأن ثمنه باهظ قياساً إلى الإهانة الإجبارية التي سيتسامح معها الزوج، بخاصة بعد إرغامهما معاً على تقليد صوت الجحش.
لكن، وفق ما نعلم، هي المرة الأولى في تاريخ الصراعات تُفتضح فيها ممارسات على هذه السوية المنحطة، وإذا كان نشرها متعمداً فذلك يشكّل سابقة أيضاً، سواء لجهة اعتمادها كنهج، أو لجهة التفاخر بها. لقد شهدنا في صراعات أهلية أخرى انتهاكات تتراوح بين المجازر الجماعية وحوادث الاغتصاب، بما في ذلك اغتصاب النساء أو الرجال أمام ذويهم، وشهدنا في حالات الثورات أنواعاً من الترويع والتعذيب في المعتقلات حتى الموت، بما في ذلك صور آلاف الجماجم في معتقلات الخمير الحمر. لكنها المرة الأولى التي نشهد فيها هذا العدد الضخم من التسجيلات التي يُراد بها إذلال عائلات على هذا النحو، وتوثيق الإذلال ونشره، المرة الأولى التي نرى فيها يداً تمسك بالسوط واليد الأخرى تمسك بالكاميرا، لتتحول الأخيرة إلى سوط أيضاً. الكاميرا هنا أداة تعذيب إضافية، ومستدامة، للرجل وزوجته، هي تقول لهم أن إهانتهم لن تقتصر على هذه اللحظة، بل سيتم تسجيلها وتأبيدها.
أمام الواقع لا تصمد فكرة تسجيل الإهانات ونشرها من أجل دفع الضحايا إلى التطرف، إننا في هذا الافتراض نضع إحدى النتائج من ضمن المقدمات، ونعفي الجلادين من مسؤولياتهم الشخصية إذ ندعمهم في مشروع سياسي أضخم وأذكى، إن لم يشطح الخيال بالبعض إلى اعتبارهم ضحايا أيضاً. لدينا جلادون يتلذذون، بكل ما للكلمة من أبعاد معنوية وحسية، بإهانة ضحاياهم. هذا التلذذ ليس نابعاً من قرار اتخذته جهة عليا، وليس نابعاً من ممارسات أو انتهاكات منسوبة إلى فصائل تحارب النظام. ببساطة ووضوح شديدين، هذا التلذذ ظهر منذ نشر التسجيلات الأولى، عندما لم تكن قد أطلقت رصاصة واحدة من الثوار، وينطوي على استعداد مسبق لارتكاب الفظائع التي ارتُكبت ولا تزال.
من دون الانزلاق إلى المفاضلة بين مجرمين، لم يُسجل سوى لقوات الأسد هذا الكمّ الهائل من الانحطاط الإنساني. حتى إصدارات «داعش» الدموية التي تتوخى الإبهار والإرهاب البصري بقيت متوقفة عند التفنن في عمليات الإعدام، ولم تتسرب للتنظيم تسجيلات تتوخى إهانة عوائل بأكملها. تجاوزات التنظيمات الإرهابية المتطرفة يمكن فهمها، لا تبريرها، وفق تفسيرها الأيديولوجي للدين، وفي أعلى درجات التطرف في تفسير «الحدود» الديني، ثمة ما يعيق ابتكار طرق الإهانة، على الأقل من باب تحريم البدع. أما في ما يخص قوات الأسد، فنحن إزاء تحلل قيمي غير مسبوق، لا يستقيم معه سوى تعبير «الاستباحة» بأقصى وأبشع معانيه.
وإذا أقررنا بوجود نهج عمومي لشبيحة الأسد، منذ اندلاع الثورة، فهو نهج يستلهم أسوأ ما يمكن أن يصوّره خيال مريض عن الحرب الأهلية. هناك من جهة الإبادة والتهجير الجماعيان، ومن جهة أخرى الاستباحة المطلقة؛ اقتصادياً بسلب ممتلكات الأهالي في المناطق الثائرة، ومعنوياً بإهانتهم وتوثيق الإهانات أمام الكاميرا. إنها ليست حرباً أهلية بالمعنى الكلاسيكي، أي ليست حرباً تبتغي الوصول إلى توازن جديد لميزان القوى، هي حرب تبتغي إخضاع الآخر كلياً وحرمانه حتى من العتبة المتدنية التي دفعته إلى الثورة. يُستحسن على هذا الصعيد أن نقرّ بتأخر أدواتنا عن تحليل الذهنية التي تبتدع هذا القدر من الانحطاط الإنساني، والتسابق والتفاخر فيه، لأنه يفوق كونه مجرد تفصيل في الصراع.
لدينا عشرات آلاف الأسر على الأقل، ممن تجرعوا إهانات مشتركة على الملأ، ولدينا معتقلون وُضعوا في ساحات عامة ليتبول عليهم أنصار النظام في كرنفالات جماعية. الحياء الشرقي فقط ما يمنع الآلاف عن الإفصاح عما تعرضوا له، ولولاه لشهدنا تسجيلات بلسان الضحايا أفظع مما تكشفه تسجيلات الجلادين. الحل ليس بالثأر أو الانتقام بالتأكيد، لكن كل «يوتيوب» يُنشر يؤكد على أن التسويات السياسية المطروحة حالياً تستهين أو تستبيح كرامات السوريين. إذا كان العالم يفكر في حل حقيقي ودائم، فأول ما ينبغي فعله أن يسترجع ذلك الزوجان صوتهما بدل النهيق الذي أُرغما عليه.
* كاتب سوري
الحياة