صفحات سوريةعمر قدور

السويداء: الثورة المركّبة/ عمر قدور

 

 

في الخامس من الشهر الحالي تسرّب تسجيل يجمع مشايخ العقل الدروز مع ما يُسمّى “اللجنة الأمنية” في محافظة السويداء، وفي فرع الأمن العسكري بحسب ما نشرت صفحة “شبكة أخبار السويداء” الموالية. رئيس فرع الأمن العسكري (وفيق ناصر) كانت له اليد الطولى في الاجتماع، إذ حصل على تفويض لا لبس فيه بالقضاء على ظاهرة “مشايخ الكرامة”، وكان توعده واضحاً بأنه يريد محو التسمية كمصطلح وكواقع. وكما نعلم، وفيق ناصر متهم من قبل مشايخ الكرامة بافتعال جرائم عدة في المحافظة من أجل إشعال الفتنة فيها، وسبق لشيخ الكرامة الراحل وحيد بلعوس أن وضعه على لائحة المطلوبين، قبل أن تشير أصابع الاتهام إلى مسؤوليته عن التفجيرين الكبيرين اللذين أوديا بحياة الشيخ وحيد والعديد من صحبه.

لم يكن مفاجئاً، بالنسبة لمتابعي أوضاع السويداء، أن يرفع مشايخ العقل الغطاء نهائياً عن مشايخ الكرامة، فقد سبق لهم أن فرضوا عقوبة “البعد الديني” في حق البلعوس الراحل، وعُدّ قرارهم حينها بمثابة تجريده من نوع من الحصانة التي تردع النظام عنه. حينئذ جرى تمييع موضوع البيان، بين إشاعات تنفي نهائياً صدوره، وأخرى تقول بأنه صدر تحت ضغط شديد من الأجهزة الأمنية وبلا اقتناع من الموقعين عليه، مثلما قد نحظى اليوم بتبريرات مماثلة تنص على أن مشايخ العقل المجتمعين بوفيق ناصر لم يمنحوه التفويض الذي أعلنه صراحة بوجودهم. هذا مع أن واحداً منهم، هو الشيخ الهجري، أعاد التأكيد عليه في اتصال لقناة تلفزيونية موالية، بينما يُعرف آخر هو الشيخ الجربوع بقربه الشديد من النظام.

في الواقع، فرضية وقوع مشايخ العقل تحت الضغط الأمني لا تصمد طويلاً. فالشيخ الحناوي كانت له مواقف متمايزة قليلاً مثل التدخل لمنع اعتقال نشطاء، حتى أنه كان ضالعاً في وساطات تخص تبادل مخطوفين بين محافظتي السويداء ودرعا، وظهر ليتحدث عنها على قناة معارضة، ولم يتعرض للإزعاج أو التضييق. النظام ليس كليّ القدرة، والآن ليس في أفضل حال كي يفرض على مشايخ العقل ما يريد بحذافيره. وعلى رغم التباين الاجتماعي في النظرة إليهم إلا أن استهدافهم من قبل النظام سيُواجه بتمرد عام عليه. أيضاً، فرضية حرص مشايخ العقل على الطائفة جراء تهديدات النظام باستهداف السويداء أسوة بالمدن الأخرى لا تصمد أمام التمحيص، إذ من المعلوم أن للسويداء وضعاً إقليمياً حساساً، فضلاً عن أن خسارته إياها تعني خسارة الجنوب السوري كله.

منطق اتهام مشايخ العقل بالعمالة لا يحلّ الإشكال، لأن المسألة لا تتعلق أيضاً بعمالة من النوع الرخيص كما توحي الكلمة. الأقرب إلى الصواب أن هناك توافقاً شبه تام في المصالح بين الطرفين، وهو التوافق الذي شهدناه منذ بدء الثورة بين مجمل الطبقة الدينية التقليدية والنظام. يُضاف عليه في الحالة الدرزية وجود تمايز قانوني تنفرد به الطائفة في قوانين الأحوال الشخصية السورية، الأمر الذي يمنح عادة رجال الدين مكانة دنيوية إضافية. ذلك ما يمكن ملاحظته بسهولة أيضاً لدى الطوائف المسيحية التي تتمتع بوضع مشابه، ولرجال الدين فيها ميزة متأتية من التمايز القانوني، أكثر من كونها متأتية من سيطرة الكنيسة بالمعنى الروحي.

في أي وقت، منذ انطلاق الثورة، لم يكن من مصلحة الطبقة الدينية التقليدية انفتاح الشباب الدرزي على محيطه الوطني الثائر، فالانغلاق هو ما يضمن بقاء سيطرة هذه الطبقة. وكان واضحاً سعي رجال الدين إلى لجم الحراك الشبابي في محافظة السويداء ومنطقتي جرمانا وصحنايا في ريف دمشق، اللتين تقطنهما غالبية درزية. “الحرص” نفسه لم يكن موجوداً إزاء تورط بعض شباب الطائفة في التطوع كشبيحة، هؤلاء كانوا في حال موتهم يحظون بمراسم تأبين دينية كشهداء أبطال، على رغم ترويج الأقاويل عن وجود قرار ديني بحرمانهم من مراسم الدفن الروحية. مع ذلك، وبسبب وقوع المناطق الدرزية على تماس مع المناطق الثائرة، حاولت النسبة الغالبة من رجال الدين الإبقاء على موقفها السياسي غير واضح جداً لجهة الاصطفاف مع النظام.

ما يُلاحظ، وهو كثيف الدلالة، أن أغلب الشباب الدرزي المنخرط في الثورة أو المؤيد لها، أو المعارض للنظام فحسب، له موقف نقدي من طبقة المشايخ التقليدية، قد يُعبَّر عنه بطرق ملتوية تجنباً للإحراج المجتمعي. السبب خلف ذلك ليس في افتراق الموقف السياسي من النظام، بل إلى حد كبير يمكن اعتبار الاختلاف السياسي في موقع النتيجة لا السبب، والأقرب إلى الصواب رؤية الشباب الدرزي للنظام ولطبقة المشايخ بوصفهما عائقاً أمام التغيير الذي ينشده. تحت الاختلاف السياسي، ثمة تململ، عمره أطول من عمر الثورة، من امتيازات رجال الدين ودورهم في لجم الحراك الاجتماعي ككل، وصولاً إلى سعيهم المفهوم للإبقاء على الدروز في موقع الطائفة المغلقة.

حركة مشايخ الكرامة أتت حلاً وسطاً، ومن الخفة قراءتها كحركة سياسية فحسب. الحركة، التي تبدو فتية بالقياس إلى المشيخة التقليدية، لا يخفى أنها تهدد بسحب البساط من تحت الأخيرة، أو على الأقل تنهي احتكارها الديني. ولأن السياسي لا ينفصل عن الأبعاد الأخرى في حالتنا، لم يكن سياسياً فقط أن تقطع الحركة إلى حد كبير مع النظام تحت لافتة “الأمن الذاتي”، فهذه الاستقلالية تعني أنها لا ترتبط معه بشبكة مصالح تقليدية على غرار مشيخة العقل، وتعني أيضاً أنها الأجدر تمثيلاً لمعارضي النظام والمشيخة معاً، حتى إذا لم تقترب من سقف طموحاتهم. الأهم أن وجود الحركة واستمرارها يسنّان سابقة لا تقبل بها إطلاقاً مشيخة العقل، وهي بروز حركات تجديدية ضمن الطبقة الدينية، ما يُنذر بتبديد سلطتها ومركزيتها الاحتكارية.

للسويداء وللدروز وضعية خاصة تأتي بالضبط من مكانة مشيخة العقل التقليدية، هذا ما يجعل الثورة فيها مركبة ومعقدة قياساً إلى بيئات أخرى. غير أن هذه الخصوصية تنحصر بالمعنى العميق في الحيز الإجرائي، لأن الدروز يتشاركون مع غيرهم من السوريين في أن جميع قوى الماضي تقف في وجوههم عندما يقررون التغيير، بما فيها القوى المتطرفة المعادية للأسد في مناطق أخرى، تلك القوى التي تعادي الأسد وتعادي حرية من يعادونه!

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى