السياسات السيئة للأكراد في سوريا/ باراك بارفي
معهد واشنطن
في 12 تشرين الثاني/نوفمبر، أعلن “حزب الاتحاد الديمقراطي”، وهو جماعة كردية سورية منتسبة لـ “حزب العمال الكردستاني” التركي، عن تشكيل حكومة انتقالية في المناطق الواقعة تحت سيطرته في شمال شرق سوريا. ومن الممكن أن تؤدي تلك الخطة إلى زيادة الانقسامات داخل المعارضة وتفاقم التوترات الإقليمية. ومن أجل الحد من تلك التوترات، يتعيّن على واشنطن تشكيل تحالف كردي عمومي يمكنه تكريس جل اهتمامه لقتال عناصر تنظيم «القاعدة» الساعية لاستغلال الحرب الأهلية في سوريا.
معلومات أساسية
يتركز الأكراد السوريون في ثلاثة مناطق غير متواصلة في شمال شرق البلاد، وهم يشكلون نحو 10 في المائة من سكان الدولة ويواجهون الاضطهاد منذ فترة طويلة. وقد اتبعت الحكومات المختلفة سياسات قمعية تتمركز حول القومية العربية ضد الأكراد، ومن بينها إحصاء خاص في عام 1962 جرد الجنسية عن نحو 20 في المائة، أو 120,000 شخص منهم؛ واليوم، فقد تضخم هذا العدد إلى نحو 300,000. إلا أن تلك الإجراءات كانت مجرد مقدمة للتدابير الأكثر قسوة، التي تم تطبيقها بعد تول حزب البعث السلطة. وفي عام 1973، وافق الرئيس حافظ الأسد على إنشاء “الحزام العربي” على طول الحدود الشمالية لعزل أكراد سوريا عن الأكراد في الدول المجاورة، وقام بطرد الآلاف منهم من قراهم وأعاد توطينها بالعرب. ويستمر منع الأكراد من دخول بعض المهن حتى اليوم، كما يتم منعهم من استلام المعونات التي تقدم إلى العرب، وغالباً ما يتم حرمانهم من الاحتفال بالأعياد الكردية.
وعلى الرغم من قمعهم المشترك وتجانسهم العرقي والديني، إلا أن الأكراد السوريين أثبتوا عدم قدرتهم على تشكيل أحزاب سياسية قوية تحظى بجاذبية جماهيرية. وفي الوقت الحالي، لدى الأكراد أربعة عشر حزباً على الأقل، لكن معظمها عبارة عن فرق هامشية يقودها رجل واحد ويتخذ فيها الزعيم معظم القرارات. وتقيم أقوى الفصائل علاقات مع الزعماء الأكراد الأجانب مثل مسعود بارزاني وجلال طالباني في العراق ورئيس “حزب العمال الكردستاني” عبد الله أوجلان في تركيا. ومع ذلك، فإن الاعتقالات والاختراقات من قبل الدوائر الأمنية للنظام قد أضعفتها بشكل كبير، كما أن تفضيل الأجيال الأكبر سناً لسياسة التوافق وتسوية الخلافات على المواجهة حدّ من تأثيرها أيضاً. وقد أفضت مثل هذه القضايا بالعديد من النشطاء الأكراد إلى تجنب إطار الأحزاب بالكلية.
وقد أدت هذه الإحباطات إلى ظهور ثلاثة أحزاب جديدة في بداية الألفية اتخذت موقفاً قوياً ضد النظام. وقد رعى “حزب الاتحاد الكردي” (“يكيتي”) عدداً من الاحتجاجات منذ إنشائه في عام 1999، وفي عام 2009 أعلن بجرأة أن هدفه هو تحقيق الحكم الذاتي – وهو مطلب غير مسبوق في الشؤون السياسية الكردية. هذا وقد لعب “حزب الحرية الكردي” (“آزادي”) دوراً جوهرياً في حشد الأكراد أثناء الاضطرابات التي اندلعت في القامشلي في عام 2004 وحاول جسر الفجوات بين الأحزاب. وغالباً ما كان “تيار المستقبل الكردي” يتبنى موقفاً جريئاً كذلك، رغم أنه فقد الكثير من توجهه عقب اغتيال مؤسسه مشعل التمو في عام 2011.
الجذور القتالية لـ “حزب الاتحاد الديمقراطي”
منذ تأسيس “حزب الاتحاد الديمقراطي” في عام 2003، اختار الحزب أن يبقى خارج السياسات الكردية الرئيسية، ويرجع ذلك جزئياً إلى جذوره في “حزب العمال الكردستاني” المتشدد. ورغم قمع الأكراد في الداخل، إلا أن لدى النظام السوري تاريخ طويل من التعاون مع “حزب العمال الكردستاني”. في عام 1977، أعلنت تركيا عن إنشاء مشروع “جنوب شرق الأناضول” لاستغلال حوضي نهري دجلة والفرات بطريقة تقلل من حرية وصول سوريا إلى المياه. وقد استجاب حافظ الأسد من خلال دعوة جماعات العصابات التركية لاستخدام بلاده كقاعدة لعملياتها. وقد فر أوجلان إلى دمشق في عام 1980 وسمح الأسد لاحقاً لـ “حزب العمال الكردستاني” بتأسيس معسكرات تدريب في وادي البقاع في لبنان تحت سيطرة سورية.
ولم يكن ذلك التعاون وسيلة للضغط على تركيا فقط، بل أداة لتفادي المشكلة الكردية في سوريا. وقد شجع نظام الأسد الأكراد السوريين على الانضمام لـ “حزب العمال الكردستاني”، وقد فعل ذلك نحو 7000 إلى 10,000 شخص، الأمر الذي أدى إلى تحول تركيزهم نحو قتال تركيا بدلاً من العمل على إحداث تغيير في سوريا. وفي هذه العملية، أصبح أوجلان الشخصية الكردية البارزة في سوريا.
ومع ذلك، ففي أواخر تسعينيات القرن الماضي، حفزت تهديدات الجيش التركي إلى قيام عملية مصالحة أدت إلى طرد أوجلان وغلق مكاتب “حزب العمال الكردستاني” في دمشق. وفي عام 2003، وبعد أن شعر السوريون في “حزب العمال الكردستاني” أن القتال قد انتهى، قاموا بتأسيس حزب سياسي هو “حزب الاتحاد الديمقراطي”.
الثورة والحكم الذاتي
عندما اندلعت الثورة في عام 2011، كان معظم الأكراد حذرين من القفز على عربة الثورة. ومع القمع الأمني الذي أعقب أعمال الشغب في عام 2004 والذي كان لا يزال حاضراً في الأذهان، كانوا يخشون من رد فعل عكسي مماثل إذا انضموا إلى الانتفاضة. كما انتابهم القلق من أن الثورة هي مجرد ورقة توت لإعادة ترسيخ حكم العرب السنة. ولم تتعامل المعارضة ما قبل الثورة مطلقاً مع المخاوف الكردية من قبل، كما أن بعض زعماء المعارضة، مثل هيثم المالح، كانوا يرفضوهم صراحة. وبالإضافة إلى ذلك، كان العديدون ينظرون إلى التطلعات الكردية بعين الريبة والشك، حيث كانوا يؤمنون بأنها ترتكز على إنشاء منطقة حكم ذاتي على غرار تلك القائمة في العراق.
ولهذه الأسباب رفض “حزب الاتحاد الديمقراطي” الانضمام إلى “الجيش السوري الحر” الثوري أو المنظمة المظلية المعروفة باسم “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية”. ومن جانبه، قام الائتلاف بحظر انضمام مؤسسات “حزب الاتحاد الديمقراطي” في شكل تكتلات موحدة ورفض الوعد بالاعتراف بالشعب الكردي في الدستور المقبل. وعلى الرغم من أن الأكراد تعاونوا بشكل محدود مع “وحدات الجيش السوري الحر”، مثل “ألوية أحفاد الرسول” و “أحرار سوريا”، إلا أنهم تصادموا كذلك مع “الجيش السوري الحر” في بعض الأحيان.
وفي غضون ذلك، سعى الرئيس بشار الأسد إلى استمالة “حزب الاتحاد الديمقراطي” بطرق مختلفة منذ اندلاع الثورة. ففي 7 نيسان/أبريل 2011 أصدر مرسوماً وعد فيه بأن بإمكان بعض الأكراد الذين جُردت جنسيتهم في عام 1962 تقديم طلب لاستعادتها. وفي تموز/يوليو 2012، تنازل النظام عن القامشلي والمناطق المحيطة بها لـ “حزب الاتحاد الديمقراطي” من أجل التركيز بشكل أفضل على سحق التقدمات الكبيرة لـ “الجيش السوري الحر”. وعلى الرغم من أن “حزب الاتحاد الديمقراطي” كان يفتقر إلى الدعم الشعبي آنذاك، إلا أنه سرعان ما أسس برلماناً محلياً، وميليشيا مسلحة (“وحدات الحماية الشعبية”) وجهاز أمن داخلي (“الأسايش”). وقد عزز “حزب العمال الكردستاني” المنظمتين الأخيرتين بنقله نحو 1000 مقاتل من العراق إلى سوريا في عام 2011، وذلك بموافقة من دمشق.
بيد أن هذه التحركات لم تؤشر على بدء حكم ذاتي لـ “حزب الاتحاد الديمقراطي”. وفي الواقع أن النظام لا يزال يوفر معظم الخدمات في المنطقة ويدفع رواتب الموظفين المدنيين. كما أنه يسيطر على نحو 10في المائة من مدينة القامشلي، بما في ذلك المطار والحي الأمني الذي يستوعب دوائر الاستخبارات والعديد من المباني في الجنوب. كما أن الدوائر الأمنية التابعة للنظام تتحرك بدون قيود في جميع أنحاء المدينة والقرى العربية المحيطة. كما أن “حزب الاتحاد الديمقراطي” يعد في نواح عديدة ليس أكثر من مجرد واجهة للنظام الذي هو بحاجة ماسة للحفاظ على الهدوء في المناطق الكردية ولديه الرغبة في التنازل عن النذر اليسير من السلطة لتحقيق ذلك. وعلى الرغم من ذلك اشتبكت “وحدات الحماية الشعبية” بين الحين والآخر مع وحدات النظام للسيطرة على نقاط التفتيش. وكل طرف يعرف أن الوضع الحالي ما هو إلا وضع مؤقت. ويرجح أن يتجه الأسد إلى إخضاع الأكراد لو أنه نجح في سحق “الجيش السوري الحر” وغيره من الجماعات المتمردة، كما أن “حزب الاتحاد الديمقراطي” يعلم جيداً هذا القتال المستقبلي الذي يلوح في الأفق.
ومع ذلك، ففي الوقت الراهن تركز الجماعة على دحر الجهاديين الذين يعتدون على المناطق الكردية. لقد قاتلت “وحدات الحماية الشعبية” الفرع السوري المنتسب لـ تنظيم «القاعدة»، والمعروف باسم «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، في تل أبيض ورأس العين وحلب. وفي الشهر الماضي قام متفجر انتحاري تابع لـ «الدولة الإسلامية في العراق والشام» باستهداف محطة أسايش في القامشلي. كما أن المخاوف من استيلاء تنظيم «القاعدة» على المنطقة أقنعت العديد من الأكراد غير السياسيين بدعم “حزب الاتحاد الديمقراطي” رغم عدم معرفتهم بأيديولوجيته.
وفي غضون ذلك، فإن القوة الشرطية لـ “حزب الاتحاد الديمقراطي” مكنته من تجاوز سيطرة النظام على الشؤون البلدية، وتوطيد قبضته على المناطق الكردية وتسوية الحسابات مع خصومه السياسيين. كما تم اعتقال النشطاء الأفراد وأعضاء من أحزاب أخرى، فضلاً عن اغتيال بعضهم. ولمواجهة هذا الهجوم، أنشأت المعارضة “المجلس الوطني الكردي” تحت إدارة مسعود بارزاني. وقد اتفق “المجلس الوطني الكردي” و “حزب الاتحاد الديمقراطي” على تشكيل “الهيئة الكردية العليا” لإدارة المناطق الكردية. بيد أن “الهيئة الكردية العليا” توقفت عن العمل في مطلع هذا العام بعد أن اتخذ “حزب الاتحاد الديمقراطي” قرارات أحادية وسيطر على معبر حدودي مع العراق.
المصالح الأمريكية
على عكس “الجيش السوري الحر”، يدعم “حزب الاتحاد الديمقراطي” الجهود الدولية لعقد مؤتمر سلام في جنيف. كما أنه يؤيد أيديولوجية علمانية قوية تفتقر إليها الجماعات الثورية الأخرى. وكما هو موضح أعلاه، فقد أظهر رغبة في مواجهة «الدولة الإسلامية في العراق والشام» حتى في الوقت الذي تتعاون فيه وحدات “الجيش السوري الحر” مع الجماعة المنتسبة لـ تنظيم «القاعدة». ولهذه الأسباب، ينبغي على الولايات المتحدة أن تتواصل مع “حزب الاتحاد الديمقراطي”. بيد أنه يجب على واشنطن أن تشرط هذا الاعتراف برغبة “حزب الاتحاد الديمقراطي” في العمل مع “المجلس الوطني الكردي” لإحياء “الهيئة الكردية العليا” الخاملة بدلاً من إقامة حكومة جديدة يديرها “حزب الاتحاد الديمقراطي” وحده. وبذلك تستطيع الولايات المتحدة أن تختبر التزام “حزب الاتحاد الديمقراطي” بالديمقراطية التعددية.
يجب على الجماعة أن تعالج المخاوف التركية حول طموحها. لقد خاضت أنقرة حرباً استمرت تسعة وعشرين عاماً ضد “حزب العمال الكردستاني”، راعي “حزب الاتحاد الديمقراطي”، وتخشى من ظهور ملاذ آمن لـ “حزب العمال الكردستاني” على حدودها مع سوريا. ولم يشن “حزب العمال الكردستاني”حتى الآن أي غارات عبر الحدود، كما أن “حزب الاتحاد الديمقراطي” ذهب إلى حد بعيد لضمان الهدوء على الحدود. ومع ذلك، سعت تركيا إلى استئصال النفوذ المتنامي لـ “حزب الاتحاد الديمقراطي” من خلال دعم “المجلس الوطني الكردي”، لكن بدون جدوى.
وربما يكون المزيج المناسب من المحفزات من واشنطن وأنقرة هو حث “حزب الاتحاد الديمقراطي” على أن يصبح حليفاً محل ثقة. وفي ثورة شهدت انتشار الجهاديين، ينبغي عدم إغفال ظهور عناصر علمانية معتدلة.
باراك بارفي هو زميل باحث في مؤسسة أمريكا الجديدة، ومتخصص في الشؤون العربية والإسلامية. وقد عاد مؤخراً من سوريا.