السياسة الصغرى: قصة روايتين/ رشا الأطرش
لا مناص من لوثة السياسة. لا مناص لأمثالنا، نحن المحكومين بالأمل واليأس معاً، في الناحية هذه من الأرض، حيث يصبّ الإعلام أضواءه، وتولّف على عناويننا الساخنة خُطَب زعماء في أول العالم وثانيه وثالثه.
لا مفرّ من غوايتنا الحتمية: قراءة رواية بعين السياسة، عين غيّارة هذه المرة. تغمض عن الصفحة ليلة، وتعود إليها لتتقد بأفكار لا علاقة مباشرة لها بالأدب.. وتغار.. حتى النهاية، حتى ترتسم ابتسامة الاستسلام.
ليست الغيرة من أدب ج.ك.رولينغ. ولا تُعدّ تحفة فنية روايتها Casual Vacancy، وهي باكورتها للراشدين بعد سلسلة “هاري بوتر” (وصدرت مؤخراً عن “دار نوفل” في ترجمة عربية بعنوان “منصب شاغر”).
الكتاب عادي. حقق مبيعات قياسية. لكنه العادي بالتعريف، وهذه “ميزته” ربما. الوصفة الناجعة لأدب تجاري ناجح لا يخلو من عمق، عمق الحد الأدنى. على حافة اللاتفاهة، لا أكثر. الحبكة المضمونة، الآمنة، بلا مغامرات السرد أو الخيال أو الأفكار. شبكة علاقات ومفارقات وشخصيات توقعك في حبائلها المتوقعة، لكنها من النوع الذي ينجز وظيفته كل مرة. قلّابة صفحات، كما يقال. كحال مسلسل تلفزيوني مسلٍّ ومشوّق، وتعمل “بي بي سي” بالفعل على تلفزة الرواية في سلسلة سيبدأ بثها في 2014.
ومع ذلك، يشوب القراءة تأمّل حسود. إذ تشتبك مع البداهة الأدبية متوسطة المستوى، صورة منبّهة لعقل عربي: السلطة المحلية. ماكينتها. التنافس عليها. حيازتها. العمل فيها ومن أجلها، بكل ما يملأ الهوامش المعروفة ههنا من مؤامرات صغيرة، ومنمنمات فضائح، وإنجازات إنسانية واجتماعية، وخيبات وآمال فردية. إنه العمل السياسي المصغر، على مستوى المجلس البلدي في “باغفورد”، تلك البلدة الانكليزية الناعسة – حاضنة أحداث الرواية. هذا النوع من الحياة السياسية، الراسخ والمسلّم به حدّ الخفاء. السياسة الصغرى، في “باغفورد” التي ترويها رولينغ، قبل لندن، كدليل على مجتمع تفصلنا عنه، كقراء عرب، سلالم كثيرة. نحن القابعين في الأسفل السياسي، وأدنى الدّرك اليومي المُعاش أيضاً. نحن المتورط وعينا بأمن أوّلي هشّ، ووظيفة ومدرسة ومستشفى.. نحن المهجوسين الآن بثورات الأحلام والكوابيس، وارتداداتها حيث عزّت، فشحّت. صنعناها، وهي قفزة؟ نعم. بنينا دولة؟ “سيستم”؟ آليات ديموقراطية؟ على الطريق إلى تلك الأهداف؟ بل هل هي أهداف ذات سبل وبرامج واضحة في الرؤوس؟ في الغالب الأعم: لا.
منذ بداية رواية رولينغ، يموت “باري فيربراذر”، فيشغر مقعده في مجلس “باغفورد”، وتستعر المنافسة قبيل انتخاب خَلَفه. موت الرجل المحبوب، ثم المعركة البلدية، يظهّران، فصلاً تلو الآخر، عُقد الرواية البسيطة: صراع طبقي، عنصرية مضمرة في مجتمع أوروبي كوزموبوليتي متعدد يفترض أنه تجاوز تلك المعضلة منذ زمن، أزمات الضواحي الأفقر، مخدرات ودعارة واغتصاب… مع ملح الشخصيات وبهارها، بغرامياتها وأمراضها وأسرارها.. القوالب إياها. غير أن العصب الأساس للحكاية يكمن دوماً في معضلة “ذا فيلدز”، المنطقة الملحقة إدراياً بالبلدة “البورجوازية الصغيرة”، والتي سرعان ما تحولت إلى حزام بؤس يقطنه من يحيَون على المعونات الاجتماعية. والدولة ترشّد إنفاقها. وبعض سكّان “باغفورد” الأصليين يزدرون تلك اللطخة في صورة بلدتهم، الهانئة برتابتها النظيفة. يسعون إلى التملص منها. كان “باري” متحمساً لدمج “ذا فيلدز”، لإنقاذ الحي الذي خرج منه فتىً ممسوحاً وصنع قصة خلاصه وارتقائه في “باغفورد”. وبرحيله المفاجئ، حاز خصوم “باري” المحليون فرصة ذهبية لإيصال عضو بلدي جديد، يكون منهم، ويصوّت معهم للتبرؤ إدارياً من تلك المنطقة الموبوءة..
هنا المتعة الأخرى، المدسوسة في لا وعي الرواية. لعل رولينغ لم تتعمدها أو تخطط لها أو حتى تتقنها. لكن عقلاً عربياً قد يرصدها، بل يستشعرها بوجدانه. وهنا أيضاً، تحضر في البال “عام التنين”، رواية المصري الشاب، محمد ربيع، والتي للمصادفة صدرت في 2012، العام نفسه الذي شهد صدور الطبعة الإنكليزية الأولى من Casual Vacancy وزوبعة مبيعاتها.
في “عام التنين” يمسي حسني مبارك شخصية روائية، في أواخر الكتاب، بقرار تقني وسياسي في آن، عشية سقوطه. لكنه ليس الأهم. بل “نعيم”، الذي يتحايل على الدولة، تلك التي ابتُذل وصفها بالـ”عميقة” من دون أن تنتفي أحقية الوصف. الفساد الذي يشتغل عليه ربيع بالفانتازيا، أهم. فيها بركة فرانز كافكا، وربما شيء من اسماعيل كاداريه. تنوع الأساليب الفنية، يورطك مع ربيع. هنا فصول متفرقة هي عبارة عن رسائل من مجهول إلى شخص يدعى “صلاح”. نصائح حول كيفية تمتين البيروقراطية، ومعها صورة العدو الغامض الممسوخ في مخيلة المصري، وتهشيم النخبة والمثقفين على طريقة الرئيس السادات الساخرة وأفلام عادل إمام التنميطية، ورغيف الخبر المفتاح، والفرعون المعبود منذ الأزل.. تمتينها كلها، وشدّ براغيها لتستحق أن تكون أدوات حُكم دهريّ. ثم تقع العين، عين الذات، على تلك المقاطع الطويلة إذ تشفّ عن بحث تاريخي وسوسيولوجي تكاد تكون رصانته أكاديمية، لولا متعة الحكي، شرقطة الفكرة، لمعة التفصيل وقد أمسى البطل.. كما في حالة شرح ربيع لتاريخ كلمة “تعريص”، يوم كانت تدلّ إلى “المعرّص” الذي يرفع أسقف البيوت ويدعّمها بألواح خشبية خاصة، ثم كيف تبدّل الزمن والمعنى والتعبير. وفصل “دعارة”، راوي المهنة أيام محمد علي وجيشه. حبّ الجيش، جرّار جيش ثانٍ من العاهرات. وعجائبية “نعيم” الزحّاف في أروقة دولة، هي أصلاً متاهة، ليستصدر شهادة وفاته ويحصل على مبلغ التأمين. ثم الرجل المريض في نُطقه/لغته. ودكان تجليد الكتب إذ تدبّ فيه حياته الآفلة. تلوينة مبهرة، تبيّن طزاجة الكاتب وهجمته على التجريب بلا شباك أمان، من أجل اكتشاف مساحات جديدة لشخصيات وأحداث وتيمات. لكن الأهم أنها تلوّن تقاسيم السياسة الصغرى خاصتنا: اعتراف بديع بالعبث، روايتنا لسياسة اللاسياسة. التخلّف الذي يُغني حبكاً لمَن مكّنته موهبة، وصفق بخيال مجنّح. يتعمّدها ربيع، ويلعب معها وبها ليركّب أدباً. أما صاحبة “المنصب الشاغر” فلا يبدو أنها تسعى إلى السياسة، بل تأتيها الأخيرة تحصيل حاصل في معادلة روائية ممتع طفوها على سطح الأدب، فقط. هنا تفتح عين الغيرة، من “السيستم” الذي يأتي رولينغ بلا جهد، من عيشها فيه كمُسَلّمة، من عمله التلقائي الذي لا تحتاج هي إلى إبداعه، بل تصوغ حوله رواية لذيذة.
يبطح محمد ربيع الروائي، رولينغ. وتبطحه جوان كاثلين رولينغ، بثروة تناهز المليار دولار. والحق أنها تسحق زملاءها بالمطلق، إذ تتوّج راهناً أغنى مؤلفي العالم ومؤلِّفاته. هي تُثري من الكتابة. وهو مهندس ليعيش، وروائي ليكون.
هذه المفارقة، أيضاً، في قلب السياسة. في القاهرة، وفي لندن.
المدن