مراجعات كتب

“السياسة” لأرسطو: ترجمتان عربيتان ترف أم تكامل فكري؟/ ابراهيم العريس

 

 

كما حدث قبل عقود لكتاب أفلاطون «الضروري في السياسة» الذي صدر خلال فترة زمنية متقاربة في بيروت في ترجمتين عربيتين، إحداهما عن العبرية والثانية عن الإنكليزية، ها هو كتاب «السياسة» لأرسطو، يصدر بدوره في فترة زمنية متقاربة في ترجمتين عربيتين، مع فارق لافت هو أنه لئن كانت ترجمتا أفلاطون حُقّقتا يومها لتنشرا للمرة الأولى، فإن ترجمتي أرسطو الحاليتين ليستا في حقيقة أمرهما سوى إعادة طباعة لعمل كان تحقّق أواسط القرن العشرين، مرة على يد المفكر المصري النهضوي أحمد لطفي السيد، ومرة على يد الأب اللبناني أوغسطينوس بربارة البولسي. ونعرف أنه كانت للترجمتين ظروفهما، التي لم يذكرها محققا أيّ من العملين. فترجمة لطفي السيد عن الفرنسية، أتت في زمنها ضمن إطار الجهود المصرية الوطنية الليبرالية، التي كانت تسعى الى رفد المفكر القانوني المصري بنصوص كلاسيكية للاستفادة منها في وضع أسس قانونية وسياسية للنهضة الفكرية في مصر – ضمن هذا الإطار ترجم طه حسين يومها أيضاً «نظام الاثينيين» لأرسطو نفسه، على سبيل المثل -، أما ترجمة الأب بربارة، فأتت بعد سنوات قليلة من ترجمة لطفي السيّد، ضمن إطار الجهود التي قامت بها «اللجنة الوطنية اللبنانية لليونسكو» لترجمة روائع كتب التراث الإنساني ونشرها. وإذا علمنا أن ترجمة الأب بربارة قد تمت عن اليونانية القديمة مباشرة، قد نفهم السبب الذي حدا باللجنة الوطنية لليونسكو الى الإنفاق عليها من دون الاعتماد على الترجمة الأخرى، المصرية، لأن هذه كانت مترجمة عن الفرنسية، وكانت من ضمن مشروع اليونسكو الترجمة عن اللغات الأصلية. فهل يمكننا أن نستنتج من هذا، أن الترجمة عن الأصل اليوناني أتت أفضل من ترجمة أحمد لطفي السيد المواربة، المرتكزة أصلاً على تلك الترجمة عن اليونانية الى الفرنسية التي قام بها الديبلوماسي والمستشرق الفرنسي بارتلمي – سانت هيلير، خلال القرن التاسع عشر؟

ليس بالضرورة. وهو أمر يمكن أن يتيقن منه، من يحاول القيام بمقارنة بين الترجمتين. فالحال أن هذه المقارنة، تبدو لنا اليوم شديدة الأهمية وعظيمة النتائج، من دون أن تسفر عن أي حكم قيمة لا معنى له في هذا المجال أو حتى عن تراتبية في الجودة. ولعل في إمكاننا في هذا السياق أن نكتفي، مبدئياً، بالقول إن لكل من الترجمتين ميزاتها وجمالها. فترجمة الأب بربارة (التي صدرت حديثاً عن المنظمة العربية للترجمة في بيروت)، تبدو شديدة الدقة، لكنها تتسم بتقنية وبنقل حرفي، مع استخدام جزل إنما شديد التقنين والصرامة للغة العربية، يكاد يكشف البعد التوماوي – نسبة الى القديس توما الإكويني -، الذي كان مهيمناً كنسياً على الضد من ابن رشد، ناقل أرسطو و «مترجمه» الى العربية في العصور الأندلسية – وكان هذا البعد يعبر عن النظرة المسيحية السكولائية الى كتاب إنما كان ينقل لرفد الفكر المسيحي بأبعاد إغريقية. أما ترجمة أحمد لطفي السيد – التي أعاد المركز العربي لدراسة السياسات إصدارها في طبعة أنيقة ومدروسة بعناية -، فتتسم من جهتها بجمال في الأسلوب العربي وبفهم مزدوج للنص الأصلي يقوم على الاستفادة القصوى من دقة وجمال وعلمية – بل نكاد نقول علمانية – اشتغال سانت هيلير على الأصل اليوناني. ولنقل من ناحية اللغة، هنا، إن تعمق المفكر المصري، مستنداً الى سلفه الفرنسي، قد جعل نصّ «السياسة» يبدو كأنه مكتوب أصلاً في اللغة العربية، ومن هنا قد يجوز الحديث عن تكامل بين الترجمتين، حيث تبدو واحدة منهما أمينة للفهم المسيحي لأرسطو، فيما تبدو الثانية نزّاعة الى توظيف هذا الفكر في نهضة حقوقية وسياسية معيّنة تلامس بالطبع ثقافة مختلفة. ولعلّ من الأمور الغريبة، أن تغيب هذه الملاحظة عن «مراجعي» الكتابين الراهنين: هيثم غالب الناهي بالنسبة الى ترجمة بربارة، ووليد نويهض بالنسبة الى ترجمة لطفي السيد.

مهما يكن من أمر، سيكون من المغالاة القول هنا إن ثمة مراجعة في الأمر. ربما كان ثمة من الناحيتين بعض التصويب لأخطاء مطبعية. أما بالنسبة الى المراجعة، فنشك في وجودها لسبب في منتهى البساطة: إذ كيف كان في إمكان كل من المتدخلين العربيين المراجعة عن لغة لا يعرفانها: فإلى حد علمنا، لا علاقة للناهي باللغة اليونانية التي نقل عنها الأب بربارة نصّه، ولا علاقة للزميل نويهض لا باليونانية، لغة «السياسة» الأصلية، ولا بالفرنسية لغة سانت هيلير. ومع هذا، تحثّنا النتيجة والمقارنة بين الكتابين على غضّ النظر عن هذه الملاحظة، والتركيز على فائدة صدور الترجمتين، من ناحية لأهمية الكتاب الأصلي، ومن ناحية ثانية كدرس مزدوج في الترجمة و «التدخل» الفكري – ولنقل: الأيديولوجي – في تحقيقها وارتباط الترجمة نفسها بزمنها، من ناحية أهميتها الآنية. ويحيلنا هذا طبعاً بعيداً من فرضية الترف الفكري والتنافس بين الترجمتين.

يبقى هنا أن نعود الى الكتاب نفسه، هذا الكتاب الذي يكاد يكون، الى جانب «جمهورية» أفلاطون، الذي نقل «الضروري في السياسة» الآنف الذكر أجزاء واسعة منه، من أكمل النصوص اليونانية الفكرية التي وصلتنا. وهذا، على أية حال ما يؤكده «مراجعا» الترجمتين – ونفضل أن نقول مقدّمي الكتابين -. ففي النصين التقديميين، وهما، للمناسبة، شديدا الإسهاب، كل على طريقته، عرض لظروف نشأة الكتاب في اليونان القديمة – ناهيك بإطلالة مفيدة على مسار ترجمة الكتب الأمهات الى العربية في تقديم وليد نويهض -، وبحث مستفيض في علاقة الفلسفة بالسياسة، ونظرة على حياة أرسطو وعلى إدراكه لما سبقه من أفكار سياسية حقوقية ترتبط بالمدينة الإغريقية والدوافع التي حدت بالمفكرين الى «إيجاد» نظم لتسيير شؤونها، ومفاهيم الاجتماع وما إلى ذلك. وهذه كلها، على أية حال، أمور مشروحة وبالتفصيل انطلاقاً من الماضي المنظور – بالنسبة الى الاجتماع الإنساني – في ذلك الحين، وصولاً الى النظم الراهنة في المدينة الإغريقية، ومنها الى المدينة الفاضلة التي تلعب التربية دوراً كبيراً في بنائها، مروراً بمسائل في غاية الأهمية كنشوء الدول وتوزّع السلطات وأثر الثورات في المجتمعات. وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة الى أنه، لئن كان متن فصول الكتاب وأبوابه يتشابه بين الترجمتين، فإن ما يبدو لافتاً حقاً، هو وجود اختلافات، تبدو أحياناً جوهرية، في توزع الأبواب والفصول، ما يشي بأن الترجمتين، عن اليونانية مباشرة، أو عن اليونانية بالواسطة، إنما تمتا انطلاقاً من مخطوطات مختلفة عن بعضها البعض. وحسبنا للتيقن من هذا أن نقارن بين ترتيب العناوين الرئيسة في كل من الترجمتين: ترجمة بربارة تتوزع على العناوين الرئيسة التالية: الباب الأول، عناصر الدولة الأساسية الطبيعية – الثاني، مناقشة بعض الدساتير – الثالث، نظريات عامة في ماهية الأحكام السياسية والحقوق السياسية وفي ماهية الملكية – الرابع، تنوّع الأحكام السياسية وملاءمتها للدول وهيئاتها الأساسية الثلاث – الخامس، الانقلابات السياسية – السادس، وجه التأليف بين عناصر الأحكام السياسية لإنشاء تلك الأحكام – السابع، الدولة الفضلى وشروط تأسيسها – الثامن، التربية في الدولة الفضلى. أما في ترجمة لطفي السيد عن سانت هيلير، فتتوزع الأقسام الرئيسة (المسماة هنا كتباً) على الشكل التالي: الكتاب الأول في الاجتماع المدني، في الرق، في المكلية، وفي السلطة العائلية – الثاني، نقد النظريات السالفة والدساتير الرئيسية – الثالث، الدولة والمواطنين، نظرية الحكومات والسادة، في الملوكية – الرابع، النظرية العامة للجمهورية الفاضلة – الخامس، التربية في المدينة الفاضلة – السادس، في الديموقراطية وفي الأليغارشية وفي السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية – السابع، في نظام السلطات في الديموقراطية وفي الأوليغارشية – والثامن، النظرية العامة للثورات…

والحقيقة، أنه حسبنا أن نقارن بين هذه العناوين، كي ندرك أن ثمة، في ما وراء الفروق التي لا يمكن الاكتفاء هنا باعتبارها لغوية، مواقف أيديولوجية فكرية تكشف، ليس فقط عن أن «الترجمة خيانة» كما يقول المثل الشائع، بل إنها، في حقيقة أمرها، معركة أيديولوجية. أما في حالتنا هنا، فنكاد نقول إنها لعبة تكامل فكري، تأتي في زمننا هذا لتلقي مزيداً من الأضواء الكاشفة على تلك المعركة العنيفة التي دارت أواخر العصور الوسطى بين القديس توما الإكويني ومدرسيّيه، وبين إبن رشد، ووصلت الى حد صدور الأحكام بالحرق والنفي والحرمان.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى