صفحات سورية

السياسي والأخلاقي في الثورة السورية


نزار حموي

لا ألوم بعض الأصدقاء على قلقهم المشروع من الخطاب الديني المتطرف الذي يظهر على بعض شاشات التلفزيون بعض الجهات التي تتبنى وتدعم الثورة السورية وربما أشاركهم في بعض قلقهم هذا، لكني كنت أرغب بوجود ولو قناة واحدة تعبر حقيقة عن الثورة وفكرها كما هو في الواقع لا كما يرغب الممولون ولا حتى كما نرغب نحن.

أريد بداية أن أقرأ تجليات الثورة من زاوية مختلفة قليلا عن تلك القراءة المعروفة لأسباب تتعلق بطبيعته الخاصة. قد لا يكون مفيدا أن نقيم الحراك في الحالة السورية من خلال ما يطفو من هتافات أو شعارات كما نفعل عادة في تقييم مظاهرة تخرج في مدينة غربية مثلا حيث يخرج الناس في ظروف قانونية ومعروفة وبحماية الشرطة فلا شيء يعكر سير المتظاهرين ويقولون ما يريدون قوله بحرية كاملة، فهم أفراد يتمتعون بجميع حقوقهم الأساسية. من هنا، فإن الهوية الفكرية للناشطين تبرز بوضوح والخطاب الذي يخرج يعبر عن موقف سياسي غالبا والرسالة تكون واضحة من دون التباس. بالمقابل، يمكننا تقييم الرسالة وتأييدها أو معارضتها أو حتى تجاهلها. إن الحكم على مظاهرة من خلال ما تطرحه من أيديولوجية أو من مواقف سياسية أمر ممكن وطبيعي، لكن ذلك لا يصح تماما في الحالة السورية فالوضع مختلف كليا.

لم يكن المواطن السوري يملك أيا من حقوقه الأساسية، بما فيها حق الحياة. قال الديكتاتور بعدما ارتكب مجزرة بحق ثلاثين ألف سوري في حماة عام 1982 لندع ما جرى في الخلف. قال ذلك وأشار بيده إلى الخلف. وقد وصلت رسالته إلى السوريين بأن حقوقهم ضاعت كلها وليس لأحد الحق حتى في السؤال عن أخيه المفقود. وكم من أمثلة على أشخاص اختفوا في أقبية المخابرات لمجرد السؤال عن أقاربهم. كان بذلك يعلن حربا كانت مستمرة على الشعب منذ أن استلم حزب البعث السلطة وإن كانت بحدة أقل، حربا لا هوادة فيها مغلقا أي باب للمصالحة أو التفاوض وقد أصدر قانونا يقضي بالإعدام لمجرد الانتماء إلى حزب الأخوان المسلمين.

بمعنى أن الإنسان ليس لديه حتى حق التفكير مع ذاته للإختيار بين أشياء متعددة، إن فكَّرَ فهو ميت حتما. ولا يخص هذا القانون المواطنين المسلمين فقط فأي سوري هو متهم وحكم الإعدام بحقه جاهز حتى يثبت العكس بالولاء المطلق. ولكم اختفى أناس من طوائف أخرى في غياهب سجون النظام. هذا ولم توفر السلطة أيا من الأساليب القذرة لتجزيء المجتمع وتفتيته سواء في إثارة النعرات الطائفية أو في التخريب المنظم للحياة والاقتصاد والثقافة وانتشر الفساد بصورة لم تعد محتملة.

عندما قامت الثورة في 2011، تجاوز الشعب هذه الحرب القائمة ضد انسانيته طيلة 48 سنة وقال ‘الشعب السوري واحد’ خرجت المظاهرات كصرخة من أعمق أعماق الشعور بالذل. ‘الموت ولا المذلة’ إنه الشعار الأبرز الذي جعل من الثورة ثورة أخلاقية بامتياز.

المظاهرة ليست في حال مظاهرة عادية فالمتظاهر يخرج إلى الشارع وهو يدرك تماما أنه قد يكون هدفا لرصاص الجيش أو الأمن والشبيحة. إن اجتماع مجموعة أفراد على إرادة واحدة للتحرر وإعلان التضامن المطلق مع باقي أفراد الوطن ايا كانت انتماءاتهم في هكذا ظروف لهو موقف قد يؤدي إلى خسارة لا يمكن تعويضها، موقف وجودي وأخلاقي أما الجانب السياسي فأقل ما فيه.

من حقي كفرد أن أؤيد اتجاها سياسيا يصب بالمحصلة في موقفي الأيديلوجي، من حقي أن أبني تحالفات مع أبناء وطني ممن يحملون فكري أو مع أي تكتل أو مجموعة أينما كانت على الأرض. ومن حقي أن أحارب اتجاها أو تيارا سياسيا بوسائل سلمية. السياسة والايديولوجية والفكر عموما موضوعات نسبية وقابلة للأخذ والرد وتختلف من شخص إلى آخر. أما الأخلاق فموضوع مطلق. قضية حمزة الخطيب قضية مطلقة لا تحتمل التأويل ولا مجال للنقاش، من واجبي أن أدافع عن حق حمزة بل من واجب كل إنسان، من واجبي أن أدافع عن الأخلاق، عن الطفولة، عن الخير والحب والحرية، من واجبي أن أتضامن مع إنسان حقوقه الأساسية مسلوبة وحقه في الحياة مسلوب. قد أختلف مع شخص في اتجاهه السياسي أو الفكري وقد أتصارع معه في هذا المجال وأخاصمه، لكن من واجبي أن أدافع عن حريته في الاعتقاد وحريته التعبير.

لنفكر معا في شخص ينزل إلى الشارع لا يملك إلا صوته ويصرخ في واحد من هتافاته هتافا متطرفا لنقل هتافا إسلاميا مغلقا يعبر عن موقف سلفي متشدد. أقول واحدا من الهتافات كون حقيقة معظم المظاهرات على هذا النحو قد نجد واحدا من بين عشرة على هذا النحو. وإذا كان هذا المتظاهر سلفيا متشددا فعلا وهو يتظاهر وقد يتعرض للموت فقد اختار فعلا أسوأ الأساليب التي استخدمها السلفيون قبله على الإطلاق في أن يخرج في مظاهرة سلمية. يستطيع إن كان سلفيا متشددا فعلا وفاهما دروس أساتذته أن يقوم بعملية انتحارية.

إننا بقراءتنا للثورة السورية على أنها مجرد موقف سياسي أو أيديولوجي إنما نتجاهل أمرين؛ الأمر الأول أن مجتمعاتنا مجتمعات متدينة وأن ما يخرج على ألسنة هؤلاء من شعارات وهتافات دينية أمر ممكن ولا يعكس بحال الرؤية السائدة عن الإسلام ولا يغير بالتالي من طبيعة الحراك السلمي حتى الآن، الأمر الثاني الذي نتجاهله أن المضمون الإسلامي هو أحد مضامين الثورة الأساسية على ألا ننظر إلى الإسلام النظرة نفسها التي روج لها الغرب بل باعتبار أن المسلمين أفراد ومتنوعون، لهم عقول وأرادات مختلفة وبشر مثل غيرهم من البشر، يحق لهم أن يعيشوا مثلما يريدون ويحق لهم تقرير مصيرهم.

كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى