صفحات الرأي

السياق التاريخي للدين والعلمانية يتبلور صراعاً على الحكم بعد الثورات العربية

 

عزمي بشارة يناقش التديّن كظاهرة تتلبّس المقدّس تتبادل الكرّ والفرّ مع العلمنة

    جوزف باسيل

ان درس انماط التدين في المجتمعات العربية الحالية غير ممكن من دون درس السياقات التاريخية، التي هي عملية تحديث الانماط وشكلها وظروفها، خصوصا سياقات عملية العلمنة. والنتيجة ان الفرق بين انماط التدين في دول ومجتمعات معينة يتحدد بنسبة كبيرة بأنماط العلمنة التي تمت في مجتمع ما. اذا ان انماط التدين يتحدد فعلها بدرجات التدين وانواعه ومدى هيمنة الثقافة الدينية في مجتمع ما.

كتاب “الدين والعلمانية في سياق تاريخي” (الجزء الاول) لعزمي بشارة، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، سيليه جزء ثان في موضوع العلمانية والعلمنة ونظرياتها والخلفية الفكرية والتاريخية لتطورها.

الكتاب الغني في مضامينه يوضح مفاهيم وظواهر يجب ايضاحها تتعلق بكثير من القضايا التي يشوبها تشويش وغموض بسبب استقطاب النقاش بين من يحرّمون الخوض في مسائل الدين، ومن ينتقدونه كأنه مجموعة من الخرافات والاساطير دون معالجة البنية الفكرية الايمانية والظاهرة الاجتماعية التي نجدها حتى في المجتمعات والدول المعلمنة وفي الثقافة وانماط الوعي والايديولوجيات العلمانية.

يعالج الفصل الاول العلاقة بين الدين والتجربة الدينية والفرق بينهما، اقتناعاً بأن تجربة المقدس لا تميّز التجربة الدينية وحدها. فملكة المرور بتجربة المقدس ملكة انسانية تجعل المرء ينفعل بظواهر اخرى. فليس الدين تجربة المقدس ولا يختزل فيها، لانه اغنى منها بالتمايزات والمؤسسات والابعاد الاجتماعية. فالدين ظاهرة اجتماعية وما يميزه من مجرد تجربة المقدس هو الايمان وعبادة موضوع الايمان. والعبادة مؤلفة من طقوس وغيرها… وحتى التدين الفردي هو ظاهرة اجتماعية.

كذلك عالج المشترك والفرق بين الدين والاسطورة وبينه وبين الاخلاق والسحر دون ان يغفل علاقة الفلسفة بالدين.

يعرض المؤلف بعض النظريات المهمة عن تشكل الاسطورة، وعناصرها الباقية في الوعي غير الدين، ويقول كما ان الدين ليس مجرد وعي زائف، وكما ان اختزاله الى ذلك يحجب رؤية الظاهرة الدينية في غناها، فان الاسطورة ليست مجرد تمثيل مشوه للواقع لو تمثيلاً غير حقيقي للحقيقة، بل هي مكون حضاري واداة تعبير وكشف لعمق النفس البشرية.

اما علاقة الدين بالاخلاق فهي الاكثر تعقيدا، لانه يصعب فصل الدين عن طاعة ما يمليه، كما ان الدين يتضمن عقائد ومواضيع ايمانية ليست لزوما اوامر ونواهي اخلاقية. والاخلاق يمكن تبريرها من دون الدين، فلا حاجة اليه لو كان مجرد اخلاق، والحقيقة ان هذا الموضوع يحتاج الى معالجة اطول واعمق واشمل.

في النتيجة يقدم الدين منظومات اخلاقية مع منظومات دمج وضبط اجتماعي في ظروف تاريخية، لكن لا تطابق بين الدين والاخلاق، وقد ينشأ حتى تعارض وتناقض بين الواجب الديني والواجب الاخلاقي في الظرف التاريخي عينه، ولا سيما مع نشوء التدين بصفته ظاهرة متميزة من الدين والاخلاق.

مسألة التدين في الفصل الثاني ترتكز على قاعدة انه لا يمكن تخيل دين من دون ايمان، الذي هو محور الدراسة. والمسألة المركزية فيه هي تمايز التدين بصفته ظاهرة اجتماعية لها دينامية تطور وحيز دلالي واجتماعي كاف يسمح بوجود تدين من دون ايمان.

يتطرق الفصل الثالث الى نقد محاولات دحض الدين التي يعدها بعض المنظرين العرب جهدا تنويريا تقدميا. ويساعد في توضيح الظاهرة الدينية بالاعتراض على اعتبارها مجموعة من الخرافات والاضاليل او ايديولوجيات السيطرة، فتفكيك هذه المحاولات واظهار العقم فيها حيث لا تساهم في فهم الظاهرة الدينية بصفتها ظاهرة اجتماعية يساعداننا في الاقتراب اكثر في فهم الظاهرة الدينية. وتوقف المؤلف طويلا عند نظريات علم الاجتماع الوظيفي التي تناولت هذا الشأن.

تعتبر الفصول الثلاثة السابقة مقدمات للفصل الرابع الذي يحاول تعريف الدين ووضع نظريات في فهمه، بدءا بتحليل لفظ الدين باللغة العربية مع بعض المقارنات، ثم تحليل اللفظ العبري للفظ “دين” وللمفردة الاخرى المستخدمة للدلالة على الدين. ويمر بتحليل اللفظ اللاتيني. ويتناول البحث المحاولات المختلفة لفهم الدين وتحديدات الدين والتدين نظريا.

لقد حدد بشارة الظواهر الاقرب للتدين وجادل في المفاهيم قبل ان يحاول وضع التعريفات كي يجعل الاخيرة اقرب الى فهم القارئ الذي احاط حركة الدين والتدين في كل اشكالهما وظواهرهما الاجتاعية. ويقول: “نعتبر هذا الجهد جهدا علمانيا، لانه بوعي او بغير وعي يضع حدود الدين ويفصله عن غيره من الظواهر” ويضيف “ان فهمنا للدين يتغير بحسب العلمنة، كما ان انماط التدين في مجتمع من المجتمعات تتأثر بأنماط العلمنة التي مر بها”.

يمهد الفصل الخامس للجزء الثاني من الكتاب، فالعبور الى العلمنة والعلمانية يمر بموضوع الدين، كذلك تحددت ظاهرة الدين، تمهيدا لتفسير فهم العلمنة من منظور الدين، وبصفتها عملية تمفصل وتمايز في الظاهرة الدينية ذاتها، بين الله والعالم، وبين المؤسسة الدينية والرعية، وبين التدين والتمأسس, وغير ذلك.

ويبحث بشارة في علمية التمايز في الفكر وفي المجالات الاجتماعية، داخل الدين وبين الدين وغيره من المظاهر. ويرى ان عملية التمايز تبدأ بفصل الله عن العالم، ثم التوسط بينهما والفصل من جديد. كما ان مأسسة الوظائف الدينية وتمايزها داخل الدين ذاته ونشوء الطائفة والمذهب والفرقة وغيرها هي ايضا صيرورة تمايز.

ويقول بشارة: كان غياب مؤسسة دينية واحدة موحدة واضحة المعالم احد اسباب كون المجتمعات الاسلامية مجتمعات اكثر دينية. ويتساءل: هل العلمنة هي فصل الدين عن الدولة، ام فصل المؤسسة الدينية عن الدولة؟ وللتدقيق فالقول بأن العلمنة هي “تحييد الدولة في الشأن الديني” يجيب عن مقولة ان ليس في الاسلام سلطة اكليروس من اجل فصل تأثيرها عن الدولة. لان المطلوب فصل تأثير الدين في الدولة بغية إلحاقها به وجعله قيما على امور المواطنين في الدولة الحديثة، وهذا نجده بكثرة في المجتمعات الاسلامية ويقول بشارة: “ليس ممكنا فهم الدين وانماط التدين وتعريفات الظاهرة الدينية وحدودها في العصر الحديث من دون فهم صيرورات التمايز وتطور الوعي التي مرت بها المجتمعات”.

ويرى “ان نشوء الفرق الدينية هو احدا اهم مظاهر توليد العلمنة لنقيضها، ويمكن ان نفهم هذه العبارة اذا عكسناها على واقع الفرق التكفيرية في “النفضة” الحالية في الدول العربية، حيث الخلافات المذهبية “التفريقية” تدفع بالرأي العام الى تبني طروحات العلمنة.

ينتهي عزمي، دون ان يكون معنيا باقناع احد، الى ان الدين ليس مجموعة من الاباطيل او النظريات الخاطئة في فهم العالم، وان العلمانية ليست عبارة عن نظرية علمية. كما ان الدين ظاهرة اجتماعية متغيرة وقابلة للدرس، وان المعارف التي يقوم عليها متغيرة، وانه يرتبط على المستوى الفردي الحي بتجربة وجدانية تشبه كثيرا تجارب وجدانية انسانية اخرى وان ما يميزها انها تقود الى الايمان الذي هو فعل ارادي وليس استدلالا عقليا او استنتاجا علميا ضروريا. وان الدين خلافا للايمان بالمطلق يبقى مع ذلك ظاهرة اجتماعية متمايزة من التجربة الفردية وليس ظاهرة مطلقة.

اذا الدين ظاهرة انسانية متنوعة وذات حدود. فالدين انسانوي وارادوي واجتماعي ونسبي ومتنوع، فيما الله مطلق ولا نهائي وكلي القدرة. والقول ان الله مطلق هو قول صحيح وبديهي.

وبالتالي ان تحويل النهائي الى لا نهائي والنسبي الى مطلق والمتنوع الى واحد لا يتم بالعلم ولا بالايمان بل بالايديولوجيا وللدقة بنوع محدد من الايديولوجيا هي الايديولوجيا الشمولية.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى