إذا تزامن ظهور أشكال فنية مع الثورة السورية، فهل ذلك يبرهن على أنها وليدة الثورة، وهل من الممكن اعتبار أي مادة أنتجتها الثورة فنًا إذا ما استخدمت أساليب التعبير الفني؟
إن خصوصية اللحظة التاريخية التي نعيشها، والتقلبات العنيفة لعلاقات الدوال بالمدلولات التي تنتجها، ورغبتنا بتخليد اللحظة وتثبيتها كإحدى أهم ركائز التحولات في التاريخ المعاصر، جعلنا نشعر بأهمية الوثائق التي نصنعها ونعتبر كل ما ننتجه في هذا السياق التاريخي ذا أهمية وقابلاً للتكريس والتأويل.
هنا، أولى العديد من الباحثين أهمية للعبارات التي ينشرها أفراد هذه المرحلة على مواقع التواصل الاجتماعية بصفتها انعطافًا مهمًا لتاريخ الكتابة، ينسجم مع الثورة وتحولاتها الكبرى وآثارها على المجتمع؛ علمًا أن موقع “فيسبوك” أُنشئ سنة 2004، وشاع استخدامه في دمشق منذ سنة 2008، وهو لم يكن أول مواقع التواصل الاجتماعية على شبكة الإنترنت. وكذلك حازت الفيديوهات غير الاحترافية التي ينشرها السوريون على موقع “يوتيوب” اهتمامًا بالغًا، وهذا النوع من الفيديوهات كان سائدًا قبل الثورة وإن كان أقل انتشارًا وتداولًا، وإذا ما حاولنا أن ننقب عن أول فيديو غير احترافي منتشر في سورية فإن ذلك لن يكون بالأمر اليسير.
فالحديث عن اللحظة التي بدأ فيها المهمشون السوريون ينتجون هذا النوع من المواد الفنية يبدو غير منطقي، فهنالك الملايين من الفيديوهات المنزلية المنشورة وغير المنشورة، والتي لا يعتبرها أغلب منتجيها ذات أهمية، وهذه متوافرة حول العالم منذ عام 1976 بسبب توافر الكاميرات المحمولة سهلة الاستعمال، كما أن كتابة الخواطر والمذكرات والآراء لم تبتكرها مواقع التواصل الاجتماعية؛ فهذه المواقع ساعدت على انتشار أعمال المهمشين التي من الممكن اعتبارها أعمالًا فنية بسبب كسرها لمركزية المكتبات الأدبية والصالات السينمائية والمحطات التلفزيونية ليس إلا.
وفي حين لاقت فكرة الثورة التي أثبتت أن المهمشين قادرون على الإبداع الفني رواجًا في الأوساط الثقافية السورية وقبولًا من الأشخاص المنتميين للفكر الثوري السوري، فإن مسألة إبداع المهمشين لأشكال فنية جديدة تبقى قضية مفتوحة للنقاش، إذ يرى بعضهم أن الثورة السورية استطاعت أن تحدث تغييرات جذرية على جميع الأصعدة بما فيها الجانب الفني، بينما يرى بعض أن التغييرات المزعومة تكرست بسبب ملاءمتها لرغبة الناس في التغيير ليس إلا؛ وفي حين يرى بعض أن ثورات الربيع العربي زعزعت المركزية فأتاحت للفنون الهامشية الفرصة للظهور، سواءً كانت لها بذورًا قبل اندلاع الأحداث السياسية أو لا، فإن بعضاً آخر يرى أن أعمال المهمّشين الفنية لم تلقَ رواجًا لولا اهتمام المركزية الغربية بها؛ ذلك الاهتمام الذي تزامن مع تمركز قضايا الربيع العربي في نشرات الأخبار العالمية.
وسواء كانت زعزعة المركزية الفنية في سورية ناجمة عن عوامل مكانية كهجرة الفن السوري وآفاق استمراريته في مكان وجوده أو أن السبب يعود للتقدم التقني متمثلًا بانتشار الهواتف الذكية، أو أن السبب يعود للوعي الجديد الذي يحمله أبناء جيل الثورة أو أنها ناجمة عن تدخل المركزية العالمية، فإن الأمر الذي يجب أن نتفق عليه هو انكسار المركزية الفنية القديمة، وفرض بعض الفنون الهامشية نفسها على الذائقة الجماهيرية في سورية. وهذا لا يعني بالضرورة أن المعارضة هي من حملت لواء الفن الجديد، وإن كانت بعض القنوات الإعلامية الداعمة للثورة هي التي أتاحت للفيديوهات غير الاحترافية فرصة الظهور بالبداية.
فبدأت قناة “فرانس 24” بعرض هذا النوع من الأفلام وتبعتها الجزيرة والعربية، ولكن المعارضة أسرعت لتنتج أعمالها الفنية الخاصة من مسلسلات ومسرحيات وأعمال تشكيلية لا تختلف من حيث الشكل عن الفنون التي ينتجها الموالون للنظام، وهذا الانقسام في المركزية السورية أتاح المجال أمام الهوامش للتعبير عن نفسها فنيًا وبأساليبها المبتكرة، لا سيما في بداية الأحداث قبل أن تمهّد المؤسّسات المعارضة الطريق لنخبتها.
وفضلًا عن ذلك، فإن الفنون التي ظهرت ليست وليدة الثورة بالضرورة، لأن كثيراً من هذه الأعمال الفنية الهامشية أنتجها أفراد موالون للنظام السوري؛ ولكن من الممكن أن نقول بأن المناخ الذي تسببت به الثورة ساهم بزيادة عدد المهمشين الراغبين في إنتاج أعمالهم الخاصة بهم والمستقلة، وساهم من ناحية أخرى بتغيير المعايير الجمالية للمتلقين أو بعضهم، فأصبحت دائرة التذوق الفني أكثر انفتاحًا، باعتبار هذه الأشكال الجديدة من التعبير فنونًا.
كل ذلك يعيدنا من جديد للتساؤل عن المعايير التي تفصل الفني عن اللا فني، ومن يحدّد هذه المعايير! فهل تكفي نسبة المشاهدة العالية لفيديوهات السيلفي أو حتى استمراريتها لتحويل هذه الظاهرة إلى شكل فني؟ أم أن فيديو السيلفي هو ظاهرة اجتماعية من الصعب أن ترتقي لتصبح فنًا؟
أيًا كانت الإجابة، ستبدو منحازة للرأي الشخصي للمجيب؛ وذلك لا يتعلّق بجدة الموضوع فحسب، بل يتعلق بطبيعة الفن التي يرى كانط أنها تختلف عن العلوم الفيزيائية والرياضية التي تنطلق من مسلمات قبلية راسخة لا يختلف على صحتها البشر كمبدأ الهوية وعدم التناقض، وأما الفنون فهي دائمًا موضع خلاف ونقاش وتتفاوت الآراء لتحديد ما هو فني وما هو غير فني؛ ولتحديد المناهج والمعايير الفنية، فالبعض يشدد على المعايير الفنية مثل بودلير، الذي يرى أن الفن هو فقط الأعمال الفنية التي تنتج من أجل الفن، بينما تتسع الدائرة عند بعض فلاسفة الجمال كنيتشه وهايدغر، واللذين يريان أن ليس هناك ما هو أكثر نسبية من إحساسنا بالجمال والفن.
لهذا تبدو محاولة الاقتراب من الموضوعية صعبة للغاية إذا ما أردنا الإجابة على هذه الأسئلة، لأن الإجابة ستتطلب التسليم بفرضيات تحتاج إلى برهان. لذلك، ولأن هذه الدراسة تعتبر من أول الدراسات التي تتناول ظاهرة فيديو السيلفي، في سورية على الأقل، فقد يكون من المجدي أن نخصص هذه الدراسة لتوصيف الظاهرة، والتعاطي معها بجدليتها دون أن نحكم عليها أحكام قيمة، وسنلقي الضوء على بعض الزوايا المهملة في هذه الظاهرة، لا سيما في النواحي الفنية، بغرض طرح المزيد من الأسئلة وإثارة المزيد من الجدل، لا بغرض الإجابة.
ولتسهيل الدراسة سنقسم فيديوهات السيلفي ضمن فئات، بحسب الغاية التي صورت هذه الفيديوهات لأجلها، وهي:
1- فيديوهات سيلفي التقطت بغرض التوثيق.
2- فيديوهات سيلفي متطورة عن علاقة الإنسان بالمرآة.
3- فيديوهات سيلفي التقطت للتعبير عن الأنا، وكأنها تصوّر لتعرض في محطة تلفزيونية خاصة لتعبر عن رسالة سياسية أو فكرية ما، أو عن موهبة فنية.
جيل
