السيناريوهات الثلاثة: كيف تفكر إسرائيل في تداعيات الأزمة السورية؟
سعيد عكاشة
لم تعد النخبة السياسية في إسرائيل تربط بين ثورات الربيع العربي وما يجرى في سوريا حاليا، إذ يفصح الكثيرون من الوزراء والخبراء الأمنيين والباحثين الإسرائيليين عن اعتقادهم بأن التغيرات التي حدثت في معظم البلدان العربية، بما في ذلك مصر، يمكن التنبؤ بمآلاتها وتأثيراتها في المصالح الإسرائيلية، وهو ما لا ينطبق على الوضع السوري الذي يلفه الغموض، خاصة وقد خابت نبوءات إسرائيلية مبكرة (بعد شهور قليلة من اندلاع الأزمة هناك في مارس 2011) عن قرب نهاية نظام الأسد.
فقد دار الحديث مبكرا عن احتمال تكرار النموذج اليمنى في التغير، والذي رعته دول مجلس التعاون الخليجي. وجاء القياس سطحيا، حيث لا يشبه الوضع الداخلي ولا التشابكات الإقليمية في اليمن ما يقابلهما في الوضع السوري. القاسم المشترك الذي تم الرهان عليه من قبل من تبنوا هذه الرؤية هو ضلوع السعودية وقطر في الأزمتين، وتبني العواصم الغربية الكبرى لهذا الحل في الأزمة السورية، ربما حتى وقتنا هذا، بدليل دعمهم لخطة كوفي أنان التي تقوم على تهيئة سوريا لمرحلة انتقالية، لا يستبعد منها النظام، ولا تنفرد بها جماعات المعارضة. غير أن كل هذه المرتكزات لم تكن كافية للقول إن ما حدث في اليمن يمكن أن يتكرر في سوريا.
مع تراجع احتمال حل الأزمة السورية على غرار النموذج اليمني، انقسمت النخبة الإسرائيلية حول تناول الوضع السوري برسم سيناريوهات ثلاثة محتملة أولها أن يسقط نظام الأسد ويحل محله نظام ينجح في منع انفراط عقد الدولة، أما السيناريو الثاني فهو أن يبقى النظام مسيطرا على أجزاء من الدولة، فيما تبقى مناطق أخرى خارج السيطرة، أو تسيطر عليها جماعات المعارضة. ويتعلق السيناريو الثالث بأن يتمكن النظام من تجاوز الأزمة والاستمرار في قيادة البلاد. ودار الجدل بعدها حول التكلفة الأمنية والتداعيات المحتملة لهذه السيناريوهات على أمن إسرائيل. ومن الأهمية هنا قبل مناقشة السيناريوهات الثلاثة أن نرصد البيئة التي تحتضن الأزمة السورية.
أولا: البيئة الإقليمية والدولية للأزمة السورية
يجمل ” إفرايم إنبار”، مدير مركز بيجن- السادات، بيئة الأحداث التي جرت في المنطقة العربية في العامين الأخيرين بقوله “هناك حالة من الغموض السياسي في الشرق الأوسط، رغم أن ما هو واضح بجلاء تراجع قوة الدول العربية، أو أنها باتت أكثر ضعفا، فيما ازدادت قوة الدول غير العربية مثل تركيا وإيران. ودوليا، بدأت الولايات المتحدة في فقدان نفوذها في المنطقة”. غير أن هناك عناصر أخرى تكمل الصورة التي قدمها “إنبار”، وبدورها ستكون مؤثرة في بيئة الأزمة السورية، فهناك:
1- التطلعات الروسية للعب دور أوسع في منطقة الشرق الأوسط، استنادا لمبدأ كان قد طرحه الرئيس فلاديمير بوتين منذ سنوات، ويرى أن احترام القوانين الدولية، وعدم تخطيها تحت مبررات التدخل الإنساني أو نشر الديمقراطية هو ما ينبغي أن يقوم عليه النظام الدولي الجديد، بعد فشل نظام القطب الواحد الذي قادته واشنطن بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.
2- سعى الصين لتأمين مواردها من الغاز والنفط، وفتح أسواق جديدة لمنتجاتها في الشرق الأوسط وإفريقيا عبر التعاون مع إيران وتركيا.
3- سعى إيران لمنع تشكل هلال سني يمتد من الخليج إلى سوريا، سيكون عائقا أمام تطلعات إيران، لكي تكون إحدى القوى الإقليمية العظمى في المنطقة.
4- طموح تركيا للعب دور قيادي في المنطقة، كونها إحدى أكثر القوى الإقليمية الثلاث (إلى جانب إيران وإسرائيل) امتلاكا لفرصة الفوز بقيادة المنطقة بسبب ضعف التناقضات الدينية والمذهبية بينها وبين العالم العربي.
في هذه الأجواء، ترى إسرائيل أن حركة الأحداث والتطورات في سوريا هي التي ستحدد إلى حد كبير مستقبل المنطقة، وفقا لتحقق أي من السيناريوهات الثلاثة المشار إليها آنفا.
ثانيا: سيناريوهات إسرائيلية لأزمة سوريا
1 – سيناريو سقوط الأسد وبقاء الدولة: في تعليقه على التطورات الأخيرة في سوريا، يقول “شلومو بروم” ، الخبير في معهد دراسات الأمن القومي بجامعة تل أبيب، “إذا ما استولت المعارضة السورية المركزية، الممثلة في الجيش السوري الحر، على الحكم، فإن هذا أمر حسن لإسرائيل. بالنسبة للموقف الرسمي لإسرائيل، المهم أن تكون هناك سلطة مركزية في سوريا، بغض النظر عمن يقف على رأسها”.
يبدو الموقف هنا متوافقا مع الخطوط الإستراتيجية في العقل الإسرائيلي، حيث التعامل مع سلطة قوية- حتى ولو كانت عدوا -أفضل من مواجهة كيانات” تحت – الدولة”، وأفضل من التعامل مع حالات انتشار الفوضى على حدودها. وقد بينت ذلك تجارب إسرائيل مع نظام معاد مثل نظام البعث في سوريا، لم تطلق خلال مدة حكمه الطويل ومنذ عام 1973 أي رصاصة من الحدود السورية، وذلك في مقابل التحديات التي فرضتها أنظمة “شبه الدولة” على الأمن الإسرائيلي، مثل حزب الله في لبنان، والحركات الإسلامية الفلسطينية مثل حماس والجهاد في غزة.
إن تحقق هذا السيناريو سيكون مفيدا لإسرائيل على أكثر من صعيد. فالبديل المنتظر في حالة سقوط الأسد سيكون تحالفا غير متجانس من قوى إسلامية وليبرالية ووطنية، من المحتم أنها ستدخل في منافسات حادة فيما بينها، وستركز كل غايتها على إعادة بناء الدولة وتأمينها من التهديدات في الداخل والخارج، بما يجعلها غير راغبة في التركيز على ملف الصراع مع إسرائيل، أو ربما الاستعداد لإبرام صفقة سلام معها، والانحياز للمعسكر الخليجي الراغب في الضغط على إيران، وعزلها عن المنطقة، وهو ما سينعكس إيجابيا بالنسبة لإسرائيل، سواء لجهة إضعاف حزب الله في لبنان، أو لجهة استغلال النفوذ الخليجي لدى الحكم الجديد في سوريا لضم دمشق وبيروت لعملية تسوية تنهى أيضا تشدد حركات فلسطينية مدعومة من إيران، مثل الجهاد، وحماس، وتفتح الطريق أمام تسوية الملف الفلسطيني بأقل قدر من الخسائر والتنازلات الإسرائيلية.
2- – سيناريو استمرار سيطرة النظام جزئيا: يعد هذا السيناريو هو الأسوأ بالنسبة لإسرائيل، فهو وإن كان يقلص التهديدات الأمنية والإستراتيجية التقليدية التي كان يمثلها الجيش السوري في دولة مركزية قوية، فإنه يفتح الباب أمام ظهور تنظيمات ما تحت- الدولة، على غرار حزب الله، وتجربة حماس في قطاع غزة، مما يضع إسرائيل أمام مشكلات أمنية شديدة، خاصة فيما يتعلق بحماية سكانها من هجمات الصواريخ قصيرة المدى، وعمليات التسلل، وخطف الجنود.
بل ربما تستغل إيران هذا الوضع لدعم جيوب صغيرة- قد تكون منها الدولة العلوية الصغيرة التي سيتحصن بها الأسد وطائفته – وتحويلها إلى محميات إيرانية، على غرار محمية الجنوب اللبناني، وقطاع غزة وتطويرها إلى الحد الذي تشكل فيه جبهات استنزاف مستمر للجيش الإسرائيلي. وعلاوة على ذلك، سيكون هذا السيناريو في صالح استمرار السياسة الإيرانية للتحول إلى قوة نووية، والتخلص من الضغوط الغربية الحالية لمنعها من امتلاك الخيار النووي، وذلك بمقايضة قدرتها على لجم الفوضى في المنطقة، مقابل تركها حرة فيما يتعلق بمشروعها النووي.
3 – سيناريو استمرار نظام الأسد: يمثل هذا السيناريو وضعا وسطا في التحديات التي سيفرضها على أمن إسرائيل. فمن جهة، يصبح نظام الأسد ضعيفا، وفاقدا للشرعية، وحريصا على التركيز على استعادة قوته داخليا بما يقلص استعداده للمغامرات الخارجية. ومن جهة أخرى، قد يزيد ذلك من اعتماده على إيران اقتصاديا، وعلى روسيا والصين عسكريا، مما يؤدى إلى مزيد من تهميش المكانة الإقليمية لإسرائيل، في ظل اشتداد قوة المحور الإيراني، وتقوية النفوذين الروسي والصيني في المنطقة.
أي أن إسرائيل ستواجه- وفقا لهذا السيناريو- وضعا يشبه ذلك الذي كان قائما قبل اندلاع الأحداث في سوريا في مارس من العام الماضي، ولكن مع تعقيدات إقليمية، وتدخلات دولية أكبر في المنطقة.
إن التطورات الأخيرة في الملف السوري تبدو مدعاة للتفاؤل في إسرائيل، حيث أعلن رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، إمكانية أن تتحرك تركيا لخلق مناطق آمنة داخل سوريا لمنع تدفق الفارين من أتون الحرب الدائرة هناك إلى داخل الأراضي التركية. وهو تطور يزيد من الضغط الواقع على نظام الأسد، ويدفع تركيا، التي تؤوى المعارضة السورية، إلى تكثيف جهودها لخلق نظام سوري مستقر، في حالة زوال نظام الأسد، خاصة أن تركيا لا تتحمل تلاعب سوريا حاليا بملف الأكراد، ودعم حزب العمال الكردستاني ذي النزعة الانفصالية.
كما أن ذلك يزيد من هوة الشقاق بين إيران وتركيا، والإسهام بشكل غير مباشر في عملية إصلاح العلاقات التركية- الإسرائيلية. أيضا، يبدو اعتراف سوريا بحيازة أسلحة كيماوية فرصة لإسرائيل للتذرع بالأخطار التي تمثلها سوريا، وحليفتها إيران، على الأمن والسلم العالميين، بما يخفض من قوة حملة عزل إسرائيل دوليا بسبب حيازتها لأسلحة نووية-لا تعترف بذلك- وبسبب استمرارها في إعاقة التسوية، ومواصلة سياسة الاستيطان في الأراضي الفلسطينية.
باحث مشارك بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام