السينمائي بطلاً لفيلمه
راشد عيسى
يصعب النظر إلى فيلم حققه المخرج السينمائي الشهيد باسل شحادة من دون أن تحضر عين الرثاء. ففي خلفية المشاهدة، ستحضر واحدة من أجمل حكايا الثورة السورية، ونعني بها حكاية شحادة نفسه، السينمائي الشاب الذي هجر دراسته خارج البلاد، وذهب إلى أكثر المناطق التهاباً، يواجه القصف والموت والحصار بكاميرا وبصورة، واحتمال الموت بين عينيه.
حكاية شحادة تزداد جمالاً وقوة حين نتعرف أكثر إلى سيرة السينمائي الشاب، الشخصية والمهنية، والتي تدحض من جديد كذب الرواية الرسمية عن إرهابيين ومتطرفين وتكفيريين. لكن ما يجعل صورة شحادة أبهى، وإن كان استشهاده كفيلا بذلك، هو أن يلمس المرء تلك الموهبة والحساسية في الفيلم الذي حمل عنوان “شارعنا، احتفال الحرية”، وعرضته “العربية” الخميس للمرة الأولى.
يعود فيلم شحادة إلى بدايات الثورة، كأنما ليقدم دليلاً قاطعاً ووثيقة للتاريخ، عن البدايات السلمية للثورة السورية. يبدأ من تظاهرة 15 آذار 2011 أمام الجامع الأموي، ثم يمضي إلى درعا مقتفياً أثر الشرارة الأولى هناك. يعرض صوراً لجدران المدرسة التي كتب عليها أولاد درعا شعاراتهم الساخرة من النظام والمتوعدة له. ثم يعود إلى تظاهرة 18 آذار في تلك المدينة، وكيف جرى تفريقها من اليوم الأول برصاص أسقط خمسة شهداء.
كذلك يصور شحادة مشاركة النساء في الثورة، ويركز على نساء دوما، ومفارقة كونهن مُحافِظات وبعضهن يرتدي الخمار، لم تمنعهن من النزول والتظاهر للمطالبة بالإفراج عن أبنائهن.
المحطة التالية للفيلم في “ساحة الساعة” في حمص. يروي شهود الفيلم حكاية آلاف المتظاهرين الذين تجمعوا هناك، كما يتحدثون عن عشرات الشهداء الذين لم يحدد عددهم بدقة إلى الآن. ويتابع الفيلم إلى مدينة حماه، ويتحدث أبناؤها عن تظاهرات “ساحة العاصي” التي استمرت لأسابيع من دون أن يخدش مواطن، قبل أن يجتاح رجال الأمن المدينة. هكذا تصل كاميرا الفيلم إلى مدينة سلمية بجوار حماه، لتحكي أيضاً سيرة البدايات والتظاهرات الأولى.
الصور التي يقدمها الفيلم لحشود المدنيين مؤثرة، أولاً بسبب سلميتها، وثانياً لأنها حشود كبيرة واستثنائية، كما في الصور التي أوردها لتظاهرات حماه. وهنا بالذات يتولد شعور عارم لدى المرء بمدى التزييف والكذب والافتراء الذي مارسه النظام السوري وحلفاؤه في شأن الثورة السورية، من خلال تصويرها بأنها متطرفة ومسلحة منذ اللحظة الأولى. شحادة في فيلمه يقدم دليلاً تلو آخر على تلك المغالطة الخبيثة، ما يزيد شعورنا بفداحة ما فعل النظام، وكيف أخذ البلاد إلى مكان آخر.
هنا تتوالى صور الانشقاقات عن العسكرية، فردية ومحدودة في البداية، ثم بأعداد كبيرة لعسكريين منشقين، وصولاً إلى مدنيين انضموا إلى “الجيش الحر” بعد ما رأوه من ظلم النظام وعنفه. تأتي صور الانشقاقات لا لتشير إلى حدث في سياق الأحداث المتتالية، بل ليقول إنها جاءت رداً منطقياً على عنف النظام وإطلاقه النار مباشرة على المتظاهرين، إلى ما هنالك من انتهاكات بات يعرفها العالم برمته.
يُترك الفيلم غير مكتمل، كما يسجّل في لقطات الختام، يبقى مفتوحاً على فضاءات واسعة. بل يُسجل استشهاد باسل شحادة في 28 أيار 2012 ليصبح هو بطل فيلمه، إلى جانب زميله ربيع الغزي، الذي استشهد في دمشق، وهو أيضاً من فريق الفيلم.
“شارعنا، احتفال الحرية” أكثر من فيلم، وأكثر من وثيقة بصرية. هو تلك القوة الغامضة والهائلة التي تجعلنا على يقين بأن النظام لن يصمد أكثر، وأن حرية السوريين باتت بين أيديهم، وبأن شاباً وكاميرا، مجرد كاميرا، في إمكانهما إسقاط نظام، مدعّم بالطائرات الحربية وصواريخ السكود.