الشارع السوري وأقنعة الفصاحة
علي جازو()
على مدى قارب خمسين سنة، ازدرى حزب البعث وقائع حياة السوريين، ملغياً التجربة بالمثال الجامد، والحقيقة بالوهم. قيّدَ اللغة بتحجر إيديولوجي، وكرَّس “نشاطات” منظماته- معتقلاته، على حساب اقتصاد الدولة وانفتاح أفق الثقافة وارتقاء مستوى التعليم. كرسها وظيفياً للتعتيم وترسيخ الأمية الفكرية، تلك التي لا يتراجع معها الوعي والنشاط المعرفي فحسب، بل يمحي الإحساس الغريزي بالخسارة الوطنية. ولم تكن اللغة السائدة سوى قناع يخفي ويسوغ استمرار الجريمة حدّ استمرائها، ونصب اللاشرعي مكان الشرعي، بل رفعه فوق السؤال والنقد. الطابع الأمني المتوحش المتواري خلف حجاب البعث وأحجيات قياداته القطرية، وتدخله الشنيع في حياة الناس ومعاملاتهم اليومية، لم يلطخ سلامة الذهن الفطرية ولا صفاء العقل البسيط.
السوريون الذين أبدوا بسالة فائقة في اللاعنف والجَلَد، يتلكؤون حين يحولون أجسادهم إلى كلمات لم يختبروا مدى فاعليتها وقوتها من قبل. حركتهم المتعاظمة في الشارع تأتي من مصدر غير لغوي ولاأدبي ولا فكري فلسفي. غياب اللغة هذه واللاأدب واللافلسفة يجعلهم في منأى عن الاحتكام إلى “ثقافة” تنهي كابوس البعث؛ محوِّلِ الثقافة إلى تعال مقيت، والعمل إلى تسوّل مذل. البعثيون العقلاء، أجراء الأمن وخبراؤه، أمثال أحمد الحاج علي وطالب ابراهيم، لا يتلكؤون حين تعليقهم على خطورة الأزمة السورية. كلامهم جاهز وألسنتهم التي لا تحترق بالألم ولا الخزي تظل طليقة حكيمة وموضوعية. إنها الموضوعية التي ترادف العمى الكلي والحكمة التي تظل تلعق مستنقع القمع. أما هؤلاء، المجهولون المنسيون، الساقطون في برك دمائهم، المعتقلون والمعذبون، الراكضون في الشوراع رافعين اللافتات الهازئة بالنظام والهاربون من الرصاص والهراوات الكهربائية، لم يمرضوا بالكتب المدرسية ولا الفصاحة البعثية، نقلوا ما لم يقووا على الاستمرار في تكتمه ورموه عارياً في وجه الطغيان. تنحدر كلماتهم من قوة ضمير نجت من موات اللغة، ومن استماتة تتفجر خارج مواضعات الفكر، إذ يحلو للبعض عرض المحتوى الفكري لحركة الاحتجاج، في الوقت الذي يغدو فيه مجرد التردد إزاءها رذيلة لرفاهية المنظرين.
السوريون هم الآن من يحرقون الليل بالنهار لكي تولد لغة من مادة الفجر، من التحول المرير والتقدم المؤلم. هكذا تعود اللغة إلى الجسد الذي يعاني ويتعذب، يحلم ويطمح، الجسد المهدد بالموت يمنح اللغة فرصة أن تولد منه. الموت الذي كان شبح السلطة ضد الناس، صار قوة الناس ضد شبح السلطة. الموت المخيف لم يعد مخيفاً، قدر ما حرر الألسنة من التخبط والتردد. لغة أخرى تتشكل شيئاً فشيئاً داخل سوريا. ولمّا كان التعبير متعلقاً بمكنون النفس وما تحس وتشعر وتطلب، صارت اللغة الآن تحت ضغط أن تلحق أدبها وثقافتها بما تناسته أو حاولت الهرب منه. إنها تتخفف وتتحول لتغدو أقرب وأكثر جرأة في التعبير. لا تلك الجرأة التي تتعلق بتخطي الخوف المجرد، بل جرأة أن تمثل شهادة حية وصادقة على حياتها الفعلية ومستوى إعاقتها المتراكم، حاملة قوة الشارع الثائر إلى عتمات اللسان الخفية حيث ذوت العزلة بخمول خانق.
هكذا يتقد المكشوفُ والحقيقي في قلب المكبوت وانعزال الخيالي. سيمضي وقت طويل حتى نرى تألق الشارع في لغة جديرة بضحاياه وصانعي طوفانه. على هذا نحن أمام حمل جديد في رحم اللغة، إننا في انتظار أن تلتصق الكلمة بالجرح حتى تنزع عن الجرح قسوة غيابه في الإنشاء المدرسي واللغو الخطابي. لم تفرز احتجاجات شوارع وساحات سوريا خطباء منمقين، ولا متكلمين طلقاء كالبوطي ومحمد حبش المرادفين الموضوعيين للقتلة والقناصين، فالخطابة المتفحمة ومحو الواقع بالكذب وتمويهه بالتحايل بغية دفنه في أرض المتاهات، فقدت مكانها لصالح خطاب مصدره الرفض والرغبة. رفض السائد والرغبة في الجديد والمجهول حد المجازفة بالحياة التي تظل جديدة طالما كانت مجازفة، وتحمل مجهولاً يترنح بين أن يكون أو لا يكون. لغة إرادة على حد الدم وحرف الولادة، لن تكون فقط صرخة عالية، ستكون كذلك بناء من حطام. ستكون هناك مرثيات ألم وصرخات رفض، وبالغناء المسحوق، إذ يتحد الألم بالرفض والضرورة بالإرادة، يُؤسَّس لعادات تلفظ المهانة التي لا ترى في توهج العاطفة سوى رقة حال رخوة تستحق الاحتقار، والحرية ضعفاً في الحكمة- قناع الهدوء والاستقرار؛ المتناسل عن لغة لاإنسانية تعفّن ضميرُها وحسُّها الأخلاقي داخل كهوف البعث.
()كاتب سوري
المستقبل