الشارع كفضاء متخيل لإبداع المساواة والحرية: عزيز تبسي
عزيز تبسي
تتمتع الجموع في الشارع بشعور وهمي بالمساواة،يمنحها إياه التشارك بالسير على الإسفلت المستوي،والعبور الميسّر بين رصيفين،أو فوق الرصيف الآمن،والتلامس المتعجل في المزدحمات،الغياب التدريجي للشعور بالتفوق والتمييز،الذي تمنحه الأزياء الفاخرة وإشهار الحيازات الظاهرة من مثاقيل الذهب المتدلي من الأعناق والمشدود على المعاصم والأصابع.
يبقى حيزاً للتلاقي الإجباري في السعي لإنجاز المهمات اليومية، الإنطلاق من البيت إلى المدرسة-العمل-زيارة الأصدقاء –تأمين الحاجيات المنزلية -التنزه-….،عاجز عن التحرر من قيوده الصلبة،يُبقي للعابرين فرصة سماع ورؤية كل شئ عابر،لكنه يراقبهم بقوة تبدو لا مرئية، كي لا ينطقون بحرف.
في الصباح
الناس مستعجلون للوصول إلى عملهم،للتوقيع على دفتر الدوام قبل رفعه والتعرض للعقوبة،أو لوضع البطاقات الممغنطة أمام الكوة الإلكترونية لتسجيل زمن الوصول.الطلاب بوجوههم التي تحمل أثار النعاس وظهورهم المنحنية بثقل حمولات حقائبهم الجلدية،قبل قرع الجرس والصعود إلى الصفوف التعليمية. الباحثون عن عمل واضعين أدواتهم البسيطة الصدئة في أوعية معدنية ماتزال عليها آثار الإسمنت اليابس. العمال المتحلقون حول بعضهم بإنتظار وصل الحافلات الخاصة بالمصانع التي يعملون بها والمنتشرة بمعظمها خارج المدينة،قابضين على أكياس نايلون غامقة داخلها أرغفتهم وأطعمتهم المتبقية من وجبة الأمس، عمال التنظيفات خلف مكانسهم الطويلة وعرباتهم المعدنية، بائعو السحلب والصمون، السائرون خلف كلابهم أو أمامهم،يقفون لوقفتهم ويسرعون لسرعتهم ويغتبطون لإغتباطهم ويتمهلون لتمكينهم من قضاء حاجاتهم البيولوجية.
ومن يتكئ على السور العالي ويمد قماشة لترمى عليها النقود، وهي فرصته للنظر والتأمل في أنواع الأحذية والأقدام والسيقان،الأحذية الرجالية الرائجة بمقدمتها المدببة كأفواه أسماك أبو سيف،أو أبطال حكايات ألف ليلة وليلة كما تظهر في أفلام السينما المشبعة برؤية الإصطبلات الإستشراقية، الأحذية الرياضية بلونها الأبيض المبهج،أو الألوان الخرافية للأحمر والأصفر والأخضر الزيتوني أو الكيوي، والجزمات النسائية العريضة التي تظهر أقدامهن وسيقانهن كقوائم الفيلة،وكعوب أحذيتهن العالية المدببة التي تدق بلاط الرصيف بغبطة المحاربين المتهيئين لعرض عسكري ترفيهي.
وتحضر آثار الطفرة الإنتاجية المحلية والعالمية الآتية من جنوب آسيا والصين على وجه الخصوص في صناعة الألبسة وسطو الورشات الصغيرة والمتوسطة المحلية على الإتجاه العام للموضة-الدُرجة، وبيعها بأسعار أخفض بكثير من إحتكارية الماركات الشهيرة “بنتون، ناف ناف، كاسوتشي، ماجيلا….”والألبسة الرياضية المكرسة “أديداس، بوما، نايك….”الجميع يرتدي اللباس ذاته، لكنه لا يلبسه كذلك، تبقى دوماً الأقلية من يلبس اللباس الحقيقي والأغلبية من تلبس المزيف،لكنهم في الشارع متساوون في أناقتهم والروائح العطرية التي تفوح منهم،وبتلك الحركات المبتكرة التي تظهر عليهم، كحمل فنجان قهوة “إكسبريسو” وتناوله في المسير الصباحي العجول، شرائط سماعات “الووك مان” الخارجة من الأذنين والمتدلية على العنق والرقبة،وهي إشارة أن العابر لا يمنح المكان كل حواسه، القبعات المقلوبة مقدمتها للخلف، الأوشام الناعمة الرقيقة وتلك التي تظهر الأذرع كصحيفة يومية أو لوحة في معرض فن تشكيلي،اللباس الرياضي الذي يظهر العلاقة الحميمة أو الولاء للأندية الرياضية الأوروربية المتفوقة “برشلونة وريال مدريد…” والعلامات التي تميز نجومها ،المشدات الملونة على المعاصم، القلادات المعدنية المتمايزة، حزمة واسعة من الإكسوارات التي تمنح مستخدمها شعوراً بالولوج إلى الحداثة وتلقف مبتكراتها،وهي فرصة لتسجيل ملاحظة أولية حول إستعداد ورغبة الناس بتغيير أنماط حياتهم وسلوكهم،تغيير غير مكلف ولا يترتب عليه أي عقوبة،سوى تلك المواعظ التربوية التي لا مفر منها،ثقيلة بمحسناتها البلاغية والبديعية،وإحالاتها اليائسة إلى عصور ماضية. ليس الوقت مناسباً بعد للمرور على عبارة الشاعر عبد اللطيف اللعبي عن “الإستحمام بالجماهير”، لكنها تبقى في البال.
وتحضر السلطة بثقلها المباشر والرمزي، لتؤكد أنها لا تأمن ترك المجموع سائباً دون مراقبتها وتدخلها عند الضرورة،اللوحات الضوئية الكبيرة التي تتحدث عن الإنجازات التي تفوق الوصف والأخرى التي تحدد بشكل مُحدّث الأوامر والنواهي،ويبقى ذلك غير كاف لتأكيده، لابد من دوريات شرطة المرور على مفارق الشوارع الرئيسية لضبط حركة الآليات،العبور المتواصل لسيارات الشرطة بإشاراتها الظاهرة وتلك السيارات المحجبة بالستائر، أصحاب الأكشاك، بائعو البسطات وأوراق الحظ، ماسحو الأحذية…… الحقيقيون منهم والمزيفون، تتجول السلطة بين الجمع بثقة القادر الواثق،يمكن القبض على من تريده ودفعه للعمل معها،بالتهديد من نقطة الضعف:لقمة العيش.بتذكيرهم أنهم يقفون في مكان غير مرخص. لكن، يمكن التفاهم على ذلك بمنحهم حصة من عملهم،أي مشاركتهم بجزء متفق عليه من كدهم اليومي تحت الشمس والمطر والحوارات الطويلة المرهقة مع زبائن لا يملكون نقوداً كافية لشراء هذه السلع البسيطة. لكن هاكم بضعة أرقام، يتوجب الإتصال بها، عند أي إحساس بحركة مريبة أو غير طبيعية،ومن الضروري التهيؤ لمهمات محددة كمراقبة الجوار أو منازل محددة، أشخاص يترددون على المكان، ولابأس من مراقبة أصحاب البسطات الأخرى!!
ويظهر في هذا الفضاء كذلك،من يعمل بدأب على إظهار تدينه المستحدث،بأن يرفع صوت المذياع على أعلاه أثناء الآذان ويصمت أثناءها لتلاوة بضعة آيات ،مطيلاً لحيته واضعاً قلنسوة بيضاء على رأسه،يفرك مسبحة بين أصابعه بتتالي حبيباتها،في إشارات متعددة إلى شكلية الإلتزام الديني، قد تسمعه ينهر من يتجاوز على الله، مستعيداً الكلمات من حضيضها “ولاك، إبن القحبة، ألم أنبهك لمرات أن تكف عن ذكر الله على الطالعة والنازلة”وهي لغته الحقيقة قبل حمى تدينه الظاهري،ويمكن أن يعود إليها في أي لحظة.وهناك من يشير بعبارات واضحة معلقة في صدر دكانه أو مطعمه أنه لا يبيع لحم الخنزير أو شحومه أو مشتقاته،وليس مناسب سؤاله عن مدى علاقة لحم الخنزير وشحومه في مطعم لبيع الفلافل أو المقالي، أو في بقالية تبيع البرغل والأرز والعدس،وهناك من يشهر لوحة في واجهة مطعمه”ممنوع شرب الخمر في مطعمنا بأمر من الله”،لكن هنا ينبغي سؤاله:هل اللحم عندكم مختوم بختم المسلخ البلدي أي هل عبرت الذبيحة على فحص الأطباء البيطريين لإقرار صلاحية لحمها للبشر،أم من تلك التي تذبح قبل أن تنفق،أو بعده.ويعمل الكثيرون/ات على إبراز الرموز الدينية بوضوح ظاهر،بتطويق أعناقهم/هن بسلاسل معدنية،تنتهي بما يدل على القرآن او الكعبة أو الصليب أو السيف المثلوم الآخر، أو الرموز الأخرى التي تعود إلى التمائم ودلالاتها خرزة زرقاء، عين، نعل فرس..، وتتدلى معهم الرموز العاطفية وكتاباتها،القلوب المفردة أو الثنائية الحرف الأول من إسم الحبيب….
لكن يبقى الصمت،ولغة الإشارة هما المسيطران على هذا الفضاء المحتل،لا أحد يتكلم إلا همساً،والخوف يثقل الأرواح ككتلة من الرصاص ويشدها إلى قاعها الرطب البليد،حتى من سيحتجون يوماً بحرق أجسدهم، لن ينطقوا بكلمة، وسيفعلون ذلك بصمت، سيقف الجميع حولهم، ليخمنوا وهم يتعرقون خوفاً، قبل أن يجهروا بالسبب العميق، كل شيء كان يختمر ببطئ، ويؤذن إلى ما سيحدث بعد ذلك من إرتفاع الكلام إلى ما فوق الغيوم والعمارات ذات الزجاج القاتم، حينها فحسب، يتهيأ الشرط للحديث مع الشاعر عبد اللطيف اللعبي، عن “الإستحمام بالجماهير”.
حلب أيار 2013
خاص – صفحات سورية –