الشاعر السوري فادي جومر: ببساطة هو شعر محكيّ
عارف حمزة
يشعر العديد من كتاب “القصيدة المحكية” بالاستبعاد والظلم، سواء من قبل منظمي المهرجانات الشعريّة أو من قبل الشعراء الذين يكتبون بالفصحى، وحتى تنظيم مهرجان خاص بهذا النوع من الشعر يُعتبر استبعاداً ونفياً من الشعر بدرجة ما. فادي جومر (1979) أحد الشعراء السوريين الذين لفتَ الأنظار إليه بنشاطه وكتابته هذا النوع. وهو من الكتاب الذين يقيمون في ألمانيا منذ سنوات، ولكنه لم يتهشم تحت ضربات المنفى والتحسّر؛ بل يُحاول أن يُتابع عمله ولو في أرض قد لا تُعتبر خصبة للكتاب العرب.
نقط عديدة ناقشنا فيها جومر، وهذه بوابة لفتح الباب أمام نقاشات قد تُحرّك ما ركد من مياه الشعر في عالمنا العربي.
*قمتَ بكتابة النص العربي لـ”نشيد الفرح” الأوروبي المعروف، والذي كتبه في الأصل الشاعر تشيلر ومن ألحان بيتهوفن، ومؤخراً كتبتَ النص العربي لأوبرا “كليلة ودمنة”، والتي عرضت في باريس، وستتجول خارجها. ماذا يعني لك ذلك وأنت خارج بلدك قسريّاً؟
هي حرقة في القلب بالتأكيد. في ظروف مغايرة، كنت سأشعر بفرح غامر لأنّ ما كتبته قُدّم في مسارح كبرى، ولكنّي، ونصوصي، محرومان من العيش في بلدي، في مسارحه تحديدًا، ولذا يظل كل نجاحٍ موسومًا بلوثة الاشتياق والحسرة.
وما يزيد الوجع هو أنه لا بوادر للعودة في الأفق؛ كل ما حولنا يشير بوضوح لتواطؤ عالمي صريح يكرّس بقاء المنظومة القمعية في بلادنا، بل وإطلاق يدها حتى في دول الجوار إن أمكن.
أن تكتب وأنت تحمل في يديك ثقل وزر اللجوء، يجعل الكتابة فعلاً ممضًّا موجعًا، أنا من بلاد تستحق أبهى صور الحياة.. لكنّي عاجز عن كتابة شيء غير المراثي عنها. أنا في بلاد تزعم أنها وطن يستقبل كل إنسان، لكنّ آلاف اللاجئين فيها محرومون من رؤية أطفالهم الذين تركوهم تحت نار حرب إبادة جماعية.. فما الذي يمكن أن أكتبه عنها؟ يبدو المشهد أكثر قتامةً من قدرة العين المجرّدة على إدراك ألوانه. صار السوريّ منبوذًا في كل مكان، ولذلك لا يبدو للكتابة أي أثر سوى “خرمشة” جدران التاريخ، لنقول إننا عشنا في زمن تحكمه الضواري.
كل مسارح هذا العالم “المتحضّر” لا تتسع لطفل سوريّ ينتظر “كرم” السياسيين ليمنحوه مقعد دراسة بدل خيمة لاجئ في اليونان، فكيف سيكون قلبي وأنا على خشبة مسرح عالميّ لا مكان بين مقاعده لطفل يحمل جنسيته كمرض وبائي؟
لون أدبي مظلوم
*لماذا كتبتَ نصّ الأوبرا بالعاميّة السوريّة؟ هل كان سيختلف الوضع لو كان بالفصحى؟ أم هو استمرار من قبلك في الوقوف إلى جانب القصيدة المحكيّة والشعر المحكي؟
لم أختر أن أكتب بالمحكية، بل تمّ اختياري لكتابة العمل الغنائي لأني أكتب بالمحكية، وأحداث القصة كما كتبتها تجري في زمن معاصر، لذا من الطبيعي أن يشاهد الجمهور شخصيات تتحدث كما هو الواقع، بأية لغة تتوقع أن يخاطب زعيم عربي حاشيته؟ أما لمَ بالسورية تحديدًا، فلأنها لغتي ببساطة.
أعتقد أن الحوارات الغنائية بين شخصيات ترتدي ثيابًا معاصرة، وتقرأ الصحف، وتسمع أغنيات تحرك الشعب، كانت ستبدو ثقيلة بغير لغة الشارع المحكية يوميًّا.
لستُ منحازًا للشعر بالمحكية إلا لكونه لونًا أدبيّا مظلومًا، لا لأني أعادي الفصحى، فأنا أعشق العربية الفصحى، أهيم بالمتنبي والمعري، أردد قصائد النواب بالفصحى كتميمة، وتسحرني لغة القرآن. كما أني شخصيّا أكتب بالفصحى.
*ولكن هناك حساسيّة عند كتاب هذا الصنف من الشعر من الاسم الذي يُطلق عليه. هل هو “شعر عاميّ” أم “شعر محكيّ” أم شعر شعبيّ”؟ ولماذا تُستبعد التسميات الأخرى؟
المسألة ليست حساسية، فحين تصف لعالم رياضيات علم المثلثات بعلم الخطوط المقاطعة، سيعترض ليس لأنه يعاني من “حساسية” ما.. بل لأنه هذا خطأ ببساطة. أغلب هذه التسميات تتكئ أساسًا على نظرة دونيّة للنص المكتوب بالمحكية، وللشعب معًا، فهو شعر “شعبيّ” لأنه أقل مستوى من الشعر المكتوب بالفصحى، وكل ما هو أقل جودة، يُنسب للشعب، وفي هذا ما لا يطاق من الحيف. أعتقد أن تقييم النص لا يمكن بحال أن يعتمد على اللغة المستخدمة في كتابته، ولا أقصد هنا مستوى اللغة بطبيعة الحال، بل ماهيتها، أهي لغة فصيحة، أم غير فصيحة، عربية أم غيرعربية.. وما يثير الحنق حقًا، هو أنّ أغلب من يستخدم هذه المصطلحات الدونية هم من الداعين لإطلاق الشعر من كل قيد، إلا أنهم “يغصّون” بالفصحى، ويعتبرونها قيدًا ذهبيًا لا يجوز المساس به.
أما وصفه بالشعر المحكي فمضحك، وكأن شعر المتنبي لم يكن محكيّا في زمانه.. وكذلك تسميته بالزجل، فالزجل فن قائم بذاته، أساسه الارتجال، وهو ينشد إنشادًا.. يصيبني نوع من الدهشة حين يصف شاعرٌ قصيدة بالمحكية بالزجل، أيعقل أن شاعرًا لا يستطيع تمييز فن شعري سائد في بلاده؟؟
ببساطة: هو شعر بالمحكية وحسب، شعر يستخدم اللغة المحكية. وتقييم جودته خاضع لما يخضع له أي نص شعري في العالم: الصورة والفكرة والموسيقا. والجِدّة بطبيعة الحال.
وقد كان الصديق الشاعر رامي العاشق، أول المشيرين لهذه النقط، في نقاشات جمعتنا عن الشعر بالمحكية، وهو بصدد إصدار عمل بحثيّ يجيب عن هذه الأسئلة بمنهجيّة علميّة، مع نماذج للشعر السوري بالمحكيّة، وأظن أنه سيكون فاتحة نقديّة مهمّة للنص الشعري السوري المكتوب بالمحكية.
معجم المحكية
*الشعر الفصيح أضاف مجازات وصورا ومفردات جديدة للقاموس الشعريّ والأدبي، حتى أنه صار، مع تراكم موجاته، يشكل معجماً كتابيّاً. هل الشعر المحكي يقوم بشيء من هذا القبيل؟
بالتأكيد، فهو شعر حيّ، متفاعل مع إيقاع الحياة اليومي، قادر على التقاط كل تفاصيل الحياة وصياغتها إن كتبه شاعر قدير، تجد في نصوص النواب، ميشيل طراد، جوزيف حرب، الأبنودي، سيد حجاب، وكذلك في تجربة رامي العاشق وبشار الحسين وعدنان العودة، وعلاء العودة وفؤاد أيوب، من الصور والمجازات والنحت اللغوي ما يسحر القارئ. أعتقد أن ما ينقص هذا النوع من الشعر، هو التنظير له والتجارب النقدية التي تتناوله.
*مظفر النواب هو ممثل كبير لهذا الشعر . رغم أن آخرين قد يجدون أن التجربة المصريّة، واللبنانيّة بشكل أقل، هي الأوسع والأكثر تأثيراً وتجربة. هل تعتقد بأنّ هناك تراكماً في الشعر المحكي السوري بموازاة التراكم الحاصل في التجارب المصرية والعراقية واللبنانية.
النواب من أساتذة هذا النمط الأبرز، وإن كان ضعف انتشار اللهجة العراقية عربيًا قد ظلمه، أرى أن التجربة اللبنانية كانت الأثرى، وللرحابنة دور شاهق في انتشارها، لا كشعراء وحسب، بل كل التجربة ومن كانوا شركاء فيها ” طلال حيدر، ميشيل طراد، جوزيف حرب، سعيد عقل، وغيرهم..”.
في مصر ولأسباب سياسية برأيي، كان باب الأغنية مغلقًا لفترة طويلة أمام شعراء المحكية الكبار، على وجود الاستثناءات، لعل أبرزها بيرم التونسي، وتجارب الأبنودي مع عبدالحليم حافظ في البدايات. وهذا أخّر بروزهم نسبيًا على المستوى العربي، طبعًا مع وجود حالة فريدة انتشرت رغم الحرب الضروس ضدها، هي حالة الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم. ولكن السؤال يظل مطروحًا، أيعقل ألا تجد أم كلثوم في قصائد عملاق كالأبنودي ما تغنيه.. وتغني شيئًا مثل “سيرة الحب”؟
في الشعر السوري، أرى أن التجربة بدأت بالنضج في السنوات العشر الأخيرة، وأنها مبشرة جدًا، فروادها يقدمون مستوى عاليًا، وهم يكونون شخصية سورية مميزة في الشعر بالمحكية، أتوقع أن نشهد نهضة شعرية ملفتة في العقود القادمة.
عروبية النظام الفظة
*الشعر يختلف من منطقة إلى أخرى، ومن لهجة إلى أخرى. وهذا قد يعني عدم فهم مَن هم خارج هذه المناطق للمناطق الأخرى. أقصد بين مناطق سورية ومناطق المغرب أو الجزائر على سبيل المثال. وربّما المتلقي المصري قد لا يفهم الشعر المحكي السوري.
أتعتقد أن المتلقي العربي – على تحفظي على المفردة والفكرة – لا يفهم ما تغنيه فيروز؟ يعاني في فهم الدراما السورية؟
أظن، وليس كلّ الظن إثمًا، أن المتلقي يعاني اليوم في فهم طلاسم ما يوصف بشعر “الحداثة” الفصيح..
*هل تعتقد أنّ “العاميّة” جاءت كرد فعل على “قومية” النظام مثلا وعروبيته المفروضة بقوة آلة الدولة القمعية منذ السبعينيات؟
إن كنت تسألني عن موقفي الشخصي، فأنا أرى أن النظام ظلم العربية الفصحى، ومسخها، وصدّر لنا نتاجًا يكاد يدمي القلب.. الخطابات العروبية لا تعني الاهتمام بالعربية.. كانت نشرات الأخبار والمذيعون والمذيعات في غالب الحالات كوارث متنقلة، مستوى تعليم العربية في مدارسنا بائس بكل معنى الكلمة.
الكتابة بالمحكية هي فعل، فعل طبيعي، هل يجب أن نعتبر أن وصف الزوجة لزوجها بصورة “عِرق عيني” أو هدهدات الجدات للأحفاد بالمحكية هي ردة فعل على أي شيء؟ هي فعل جمال، بكل بساطة.
أما عربيًا، فمواقف النواب والأبنودي مثلاً عروبيّة واضحة، الشعر بالمحكية في الخليج راسخ، عريق، وقد يكون أصل الشعر هناك، ولا أعتقد أن شعراء لبنان عانوا من فرض “العروبة” ليبادروا بردة فعل.
وأنا مقصّر حقًّا في الاطلاع على تجربة المغرب العربي في الشعر بالمحكية، إلا من خلال الأغاني، وفيها الكثير من الجمال.
ضفة ثالثة