الشاعر جاروميل يكتب قصيدته/ يوسف بزي
أحب جاروميل الفتاة ذات الشعر الأحمر، أو لنقل إنه لم يجد فتاة تقبل حبه سواها. مع ذلك، سيتقدم جاروميل بوشاية إلى أجهزة الأمن بحبيبته وشقيقها. وشاية بتهمة الخيانة الوطنية.
كان هذا الشاعر، بطل رواية ميلان كونديرا “الحياة هي في مكان آخر”، لا عمل له سوى معايشة الإحباط وكتابة القصائد التي لا معنى لها، وتمجيد “الاشتراكية”. والتي ستجعله معروفاً يلقي الشعر في الأمسيات الرسمية في بلده المحكوم بنظام شيوعي ستاليني.
سيعيش جاروميل حقبة ذاك النظام “المنتصر”، سيتقدم في الحياة والشهرة والمكانة جنباً إلى جنب مع استتباب دولة القمع، وسيكون إبناً لهذا النظام وحامل دعاواه وشعاراته. سيكتب الشعر الحالم والرقيق والبريء في صحبة الطغيان السياسي، وعهد الاتهامات المفبركة للمعارضين، والتعذيب الممنهج في السجون والاعتقالات العشوائية لأدنى شبهة، والكتب الممنوعة والرقابة والاغتيالات..
كان ذاك عهد الفظائع، لكنه أيضاً عهد الغنائية بامتياز. كانت سلطة الشاعر تتوحد مع سلطة السفاح. كان “الحالم” و”البريء” رفيق الجلاد، شقيقه ونظيره. وربما لهذا السبب، لم يتورع جاروميل عن تقديم حبيبته على مذبح النظام. ويمكن القول ان فعله هذا كان “شاعرياً” بامتياز، قصيدته الفعلية التي لم تنتسَ، اخلاصه الأخير لرقصة الموت والتفاهة.
نستحضر جاروميل ونتذكره، فيما نحن نعايش شعراءنا في عهود صدام حسين وآل الأسد والقذافي واشباههم. شعراء “الحداثة” و”الحرية” و”الطليعية”، الأبرياء والأتقياء والحالمون.. هؤلاء مثل بطل “الحياة هي في مكان آخر” مخلصون لقصائدهم، معذًبون باحباطاتهم، غارقون في أنواتهم القلقة، متعلقون بأمهاتهم حتى الوله، الذي يكاد يكون انحرافاً سيكولوجياً. يضنيهم الأرق والشيخوخة وتهويمات الموت. عشّاق أبديون ولا يعرفون سوى التضحية بعشيقاتهم والوشاية بهن. “مثقفون” متعلقون بـ”الحقيقة” ومسحورون بقدرهم الشخصي، بمعجزة وجودهم.
هؤلاء أصحاب النظرة الاحتقارية لكل ما هو عمومي وعادي وعفوي، الرؤيويون (كما جاروميل) الذين يتعففون عن المبتذل والزائل، ويتعالون عن السياسة والأمور اليومية. البخلاء في التعاطف والمواساة والمشاعر العادية، طالما أنهم منذورون لـ”رسالتهم”، لمصيرهم الخاص، لأدوارهم الاستثنائية.
لا نعرف صفات للديكتاتور العربي إلا تلك التي تطابق صفات أولئك الشعراء. خصوصاً “حنانهم الأمومي”، بل هم أيضاً كانوا وما زالوا يتبنون أفكاراً “شاعرية” في السياسة والحكم والسلطة. هم أبناء “الحداثة” حقاً، ويتبنون فكرة جاروميل نفسها: “مجد الواجب يولد من رأس الحب المقطوع”. بل انهم يرددون صرخة الشاعر جاروميل ذاتها كل يوم: “إننا نرتكب القساوة الأعظم عندما لا نجرؤ أن نكون قساة”. بهكذا فكرة “غنائية” يستطيع بشار الأسد وصدام حسين إقامة محرقة كيميائية، ومنها تصاغ عبارة “الأسد أو نحرق البلد” فيما الشاعر الرقيق، يصدح كعصفور تغنياً واحتفالاً.
يكتب ميلان كونديرا: كان جاروميل يجوب الشوارع مسحوراً بقدره الخاص، وعندما عاد إلى منزله، وجد رسالة: “سأكون سعيدة جداً إذا استطعت أن تأتي في الأسبوع المقبل، يوم كذا والساعة كذا إلى أمسية صغيرة تلتقي فيها اشخاصاً سيثيرون اهتمامك”.
كانت الرسالة تحمل توقيع الشابة السينمائية التي التقاها في السابق وسحرته ولكنه جعل فرصة ثمينة تفلت منه حين هرب من لقاء حميم معها.
كانت أمسية ساحرة تلك التي قضاها في غرفته تلك الليلة، كانت أكثر إسكاراً من جميع الأمسيات الغرامية التي يمكن تخيلها، كانت أمه في الغرفة المجاورة، وعندما قرعت الباب لتسأله عما كان يفعل، قال لها بحنان “ماما” ورجاها أن تساعده على إيجاد الهدوء والتركيز، لأنه هكذا قال: “أكتب اليوم أعظم قصيدة في حياتي”.
فابتسمت الأم ابتسامة أمومية ودودة ومتفهمة ومنحته الهدوء.
ثم استلقى على السرير وفكر مع نفسه انه في اللحظة نفسها، كانت صديقته صاحبة الشعر الأحمر محاطة برجال من الشرطة والمحققين والحراس، وأنه كان بامكانهم أن يفعلوا بها ما يشاؤون، أن يراقبها الحارس من منظار الباب بينما هي تجلس على دلو لتتبول (انتهى الاقتباس).
كم جاروميل نعرف في دمشق وبيروت وبغداد وباريس…؟
المستقبل