الشاعر وديع سعادة يكتب وصاياه: وهم الشعر/ عارف حمزة
فاجأ الشاعر اللبناني، المقيم في أستراليا، وديع سعادة (1948) قرّاءه يوم العاشر من آذار/ مارس الحالي بكتابة ثماني وصايا على صفحته الشخصيّة في موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك.
“وصيّتي الأولى: ألاّ يُصلّى على جثماني”- كتب صاحب “ليس للمساء أخوة”، وهي المجموعة التي خطّها سعادة بيده ووزّعها في بيروت في عام 1973، بينما صدرت مطبوعة في عام 1981. وكتب في المقطع الأوّل منها:
في هذه القرية
تُنسى أقحواناتُ المساء
مرتجفةً خلف الأبواب.
في هذه القرية التي تستيقظ
لتشرب المطر
انكسرتْ في يدي زجاجةُ العالم
ويبدو أنّ “زجاجة العالم” التي انكسرت في أوّل كتاب كتبه ونشره ستنكسر تباعًا في كلّ كتبه اللاحقة، وربّما ستصبح ثيمة لعمله في كتابة الشعر وتأصيلَ دفاعه عن هشاشة الإنسان وهشاشة الأمكنة والأشياء ضد وحشيّة هذا العالم المتسارع، والطاحن في سرعته للذكريات والعلاقات الإنسانيّة.
تحطُّم تلك الزجاجة سيؤلّف عنوان مجموعته الثانية “المياه المياه” التي صدرت في عام 1983، وستؤلّف، لاحقًا، كلّ المجموعات الشعريّة التي أصدرها سعادة فيما بعد.
سترتبط وصيته الأولى- لا أريد لأحد أن يصلّي على جثماني- مع وصيتيه الثانية والثالثة، وخاصّة بالثالثة. “وصيتي الثانية: أن تُقيموا عرسًا لا مأتمًا”، إذ لا يُريد سعادة أن يكون موضع حزن لأحبّائه، ولا أن يتحوّل إلى ذكرى حزينة. هو يحزن، ربّما في كتابة الشعر، أو الحديث عن الشعر وأصحابه الشعراء الراحلين تباعًا، ولكن هذا لا يعني أنّه شخص سعيد، أو يحب وينشر السعادة على الأقل.. هو شخص ضالع في الحزن، وكتب كثيرًا عن “الغياب” ولكن لا يريد أن يتذكّره الآخرون كحزن، بل أن يُقيموا عرسًا وأن يشربوا نخبه وأنخابَ “رجل في هواء مستعمل يقعد ويفكر في الحيوانات” (1985) وليس كغياب محزن، كغياب أبديّ، ولو على شكل “مقعد راكب غادر الباص” (1987)! وذلك تأكيدًا على تنفيذ إحدى وصاياه، “وصيتي الرابعة: إن أردّتم أن تتذكرونني فتذكروا ضحكتي ولا تتذكروا حزني”. ولتحقيق، أو لتنفيذ، الوصية الرابعة، وهي تذكّر ضحكته وليس حزنه، عليهم تنفيذ الوصية الثانية بإقامة عرس وليس مأتماً. يُريد سعادة أن يبقى مصدر سعادة للآخرين، القريبين والبعيدين، وليس مصدر حزن قد يُثير الشفقة في دور ما من تقلّبات أدوار الحزن.
“وصيّتي الثالثة: ألا يُشارك في دفني رجال دين ولا رجال سياسة”. وهي وصية مرتبطة بالوصيّة الأولى، بعدم الصلاة على جثمانه. وديع الذي يجد الدين في المحبة، في إنسانيّة الإنسان، وهي الوصية المرتبطة بوصيّته السابعة، وما قبل الأخيرة، رسالة موجّهة للآخر: “وصيّتي السابعة: لا تنظروا إلى الأعلى وتصلّوا للغيب، انظروا إلى الإنسان الذي بينكم وأحبّوهْ”. الإنسان الفقير، الهشّ، المحروم، الفاقد لمَن ينظر إليه ويُحبّه. الإنسان الذي يعيش بيننا ويحيا في داخله فحسب، أو يعيش ولا يحيا بسبب بغض الآخرين وابتعادهم عنه. هذا هو موقف سعادة؛ الوقوف مع الإنسان ضد الوحشيّة، مع الحب والتسامح ضد البغض والحقد والكراهية، هو موقفه مع الفقير الذي قد يبيع نفسه بسبب وحشيّة أناس آخرين، كما كتب في وصيّته الخامسة: “وصيتي الخامسة: احذروا التجّار والرأسمالييّن سارقي لقمة الخبز من أفواه الفقراء، واحترموا حتى المومسات للاتجار بأجسادهنّ من أجل لقمة الخبز”.
لا إرث لي
في وصيّته السادسة يكتب سعادة: “لا تقولوا إني كنتُ شاعرًا كبيرًا، ارموا كلّ كتبي في النار، وعيشوا حرّيتكم في الحياة وخارج كلّ الكتب”. هكذا يقول صاحب “بسبب غيمة على الأرجح” (1992) في “محاولة وصل ضفتين بصوت” (1997)، كي يدوم أبدًا “نص الغياب” (1999) أو يمّحي ويتحول كل ما كتبه وقاله، رغم حواراته الشحيحة على أيّ حال، إلى “غبار” (2001). هي قسوة منه على ما كتبه، على نفسه وعلى الشخصيّات التي سكنتْ داخله، أو عصفتْ حوله، هو الذي حاولَ “رتقَ الهواء” (2006). وفي رمي كل كتبه، ونسيان أثره كشاعر كبير سيستمرّ منجزه الشعريّ في تجارب لاحقة تكتب بذلك الصوت الخافت عن قضايا كبرى، ضد شكل ونهج ، كأنّه يُفسّر عنوان كتابه المطبوع الأخير “تركيب آخر لحياة وديع سعادة” (2006). ولكنّ نشر أعماله الشعريّة الكاملة، في عام 2008، لم يمنع سعادة من العودة على بدء؛ وهي عادة توزيع كتبه على الآخرين مباشرة، دون تدخل دار نشر ما، وهذا ما حدث مع مجموعتيه الأخيرتين، “مَن أخذَ النظرة التي تركتُها عند الباب؟” (2011) التي وُزّعت إلى أصدقائه عبر الإيميل، ثمّ نُشرت على موقعه الإلكترونيّ، ومجموعته الأخيرة “قُلْ للعابر أن يعودَ، نسيَ هنا ظلّه” (2012)، التي نُشرت على موقعه الإلكتروني الشخصي، ونتمنّى أنّ يكون لقرّائه “إرث” من المخطوطات التي ضجر سعادة من نشرها أو توزيعها. الإرث الذي كتب عنه وصيّته الثامنة والأخيرة “وصيّتي الأخيرة لعائلتي: لا تسألوا عن إرث، فأنا لا أملك شيئًا”.
هناك إرث آخر لسعادة، إرث الشخصيّات التي خلقها وخلق أصواتها داخل مجموعاته، الأصوات التي من ريح ودموع وظلال. الإرث الذي تداوله مع شعراء كثيرين من أصحابه وصاروا في منافٍ بعيدة، أو رحلوا هناك. المنفى الذي كان الأرض الواسعة لنصوصه التي تصلح لكلّ اللغات والأقوام، رغم الترجمة القليلة، يا للأسف، التي طاولت أعماله، إذ تُرجمت نصوص له إلى الألمانيّة والإنجليزيّة والفرنسيّة. المنفى الذي ناداه من بلده كي يُغادرها في أواخر عام 1988، وينظر من سيدني إلى مسقط الرأس كمنفى. “الإنسان كائنٌ عاقل؟ صفةٌ ناقصة. الإنسان كائنٌ منفيّ. والمنفى اتسع. الأرض كلها صارت منفى”، يقول سعادة.
ولكن تعالوا نعرف الإرث الذي ورثه وديع سعادة، والعمل اليومي الذي لا يملّ من القيام به في سيدني: “شقيق والدتي (وكان اسمه أديب) هاجر من لبنان إلى البرازيل في الحرب العالمية الأولى ولم يعد مطلقًا إلى لبنان. كل ما كنت أعرف عنه أن لي خالًا في البرازيل اسمه أديب ولا شيء أكثر من ذلك. في ثمانينيات القرن الماضي، وفي أحد مهرجانات المربد في بغداد، تعرفتُ إلى شخص ستّيني من البرازيل فسألته إن كان يعرف خالي، فصادف أنه يعرفه وقال لي: أراه كل يوم يتمشى في الشارع ذهابًا وإيابًا ولا أظنه يفعل شيئًا آخر… آه يا خالي، أنا اليوم مثلك، أتمشى يوميًا ذهابًا وإيابًا في أحد شوارع سيدني، ولا أفعل شيئًا آخر”.
الموت والشعر
لطالما فكّر سعادة في نهايته، في موته، وكتب عن ذلك ربّما منذ بداياته. كتب قبل أيام أيضًا “حينَ يبلغُ المرءُ السبعينَ، ماذ يقولُ لحياتِه التي يودّعها؟”. صحيح أنّ سعادة ليس الكاتب الأول الذي يطلب من الآخرين ألا يُصلّى عليه، بل هناك مَن طلب أن يُدفن في مكان مجهول، كما فعل الروائي السوري حنا مينه في وصيّته، بل إنّ هناك من الشعراء مَن رثى نفسه بقصيدة، أو أكثر. إنّه استمرار لقوافل الشعراء والكتّاب الذين عاشوا ضيمَ سوء التفاهم مع هذا العالم الذي يتطوّر دائمًا في وحشيّته وعدم إنسانيّته، في ركضه الطويل والسريع نحو الهاوية. اللاجدوى ربّما جعلته يكتب على صفحته في ديسمبر من العام الماضي لأصدقائه وقارئي صفحته “لم يعد لديّ ما أقوله على الفيسبوك”، وهو استمراره في التفكير في اللاجدوى والضجر؛ كما كتب سعادة في 17 تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي “ضجرٌ، ضجر، ضجر، وأنتظر الأرضَ كي تضجرَ منّي”. تراكم هذا الضجر واليأس من تغييّر أيّ شيء في وحشيّة العالم يبعثان على الأسى، ويجعلانا نُفكر في معنى الكتابة بشكل عام، ومعنى الشعر بشكل خاص. وسيكون مؤلمًا أن نعثر على مقولة “وهم الشعر” من شاعر كبير مثل وديع سعادة، الذي كتب في 15 شباط/ فبراير الماضي “شكرًا يا أدونيس لاتصالك بي من باريس كي تسأل عني. كيف أقول لك أنا بخير وحتى الشعر الذي حسبناه تغييرًا لهذا العالم لم يكن سوى وهْم؟”.
ضفة ثالثة