الشاهدات رأساً على عقب: رواية عبثية في زمن دامٍ/ أحمد باشا
“المرء حين يبكي على ميت ما، حقيقة يبكي على البشرية التي لم يكن لها شأن الخلود، والقاتل حين يقتل ضحيته، إنما يفعل ذلك لتمنحه الضحية شعوراً طفيفاً بفكرة الخلود الزائف. الإدمان على القتل هو لتجرع ذلك الشعور بكميات أكبر، وأننا مولعون بالموتى، لا لأننا أوفياء لهم، بل لأنهم منحونا ذلك الشعور دون أن نكون متورطين بموتهم، لذلك نضع الورود على قبورهم. كم يؤلم الورد يقين الموتى!”.
هكذا، يذهب الكاتب الشاب راهيم حساوي بعيداً في تكثيف الأسئلة البديهية، معلناً رفضه التام لليقينات التي تحيل هذا العالم إلى قبر صغير، “الشاهدات رأساً على عقب” أداة شجب روائي صدرت حديثاً للكاتب السوري عن دار العين _ القاهرة. التجربة الروائية الأولى لحساوي القادم من عالم الكتابة المسرحية تتناول موضوعات متعددة، يقارب الموت فيما بينها فلسفياً، دون أن يفرقها مكانياً. المقبرة تتوسط المدينة، كما تقع في مركز الذاكرة أيضاً، لذلك، فإن الأحداث الجارية تتموت ذهنياً، دون الاكتراث بمآلات الواقع. على هذا النحو، يتآكل سور المقبرة خارج التاريخ: الموت، الوحدة، يحكم الخناق على كثير من القصص والأسرار. على حين تبدو شواهد المقبرة شاحبة، تتصف بإنفلاتها من عقال اللحظة. الذاكرة الفردية: عدمية، أحادية بصيغة الجموع، عاجزة، لكنها تؤدي وظيفتها الآنية؛ شغل المساحات بين ابناء المدينة، تكسرالرتابة في انتظام المسافات بين شواهد المقبرة.
جابر الزايم، بطل الرواية، شاب في الخامسة والعشرين من عمره، قضى معظم طفولته بين أسوار المقبرة، فأُثقل ذهنه بكثير من الأسئلة الفلسفية حول مواضيع خالدة: الحياة، الموت، سطوة الزمن. على لسان جابر تأتي الرواية، فبعد أن عادت وجمعته الأقدار بصديق طفولته رشاد بصدفة مطلقة في أحد صالونات الحلاقة، بدأت تتكشف خيوط الحكاية: رشاد العائد من العاصمة، رفيق درب جابر في المقبرة، يموت بصعقة كهربائية، لا تترك أثراً في نفس صديق طفولته سوى مقتاً أكبر لعالم الأحياء.
تشكل هواجس جابر الغرائبية موقفه من العالم، وتسكن هذه الهواجس والتصورات متن الحكاية الأساسية وصوتها الوحيد والأوحد؛ فهو الممسوس بلوثة اليقينات، يبقى حبيس إحدى حوادث الطفولة: تعذيبه منذ عشر سنوات من قبل بديع الزاهر بطريقة وحشية، لتساعده كنانة زوجة بديع في الهروب حينها. كنانة التي تمثل له الخلاص، التقى بها مرة واحدة بعدها في المقبرة، قبل أن يفجع بنبأ انتحارها في اليوم التالي.
انتحار كنانة، حدث أساسي يرخي بظلاله على مفاصل العمل كاملاً، فهو الصوت الأنثوي الدافئ_المٌخلص_ القادم من ذاكرة العالم المنفصم أرادياً عن ذهن جابر. على هذا النحو، يستأثر جابر التواصل مع العالم الخارجي، ويبقى ذكر وجه كنانة هاجساً من هواجس تواصله مع كل مايحدث حوله، لذلك نجده يفتن بمنار (صديق رشاد) منذ لقائه الأول به.
جابر، الشخصية التي تبدو وكأنها هاربة من مسرح العبث، يحيا صراعاً دائماً مع فكرة الزمن، يزداد توجسه من العالم يوماً بعد الآخر، خاصة بسبب حظه العاثر الذي يجعل من بديع الزاهر شبحاً يلاحقه في كل الفضاءات التي يحاول اللجوء إليها، لا سيما منزل نينار في العاصمة، ليؤول به الحال في النهاية على النحو التالي: على جسر قديم عال في العاصمة، يقف جابر يتأمل السيارات المسرعة وحركة المارة، يستند على الحديد، يفكر بشكل جثته بعد أن ينتحر، ترتفع أطراف قدميه سنتيمترات قليلة وتعود إلى الأرض، هذه اللحظات تعطي له معنى ما، فعل ما؛ يؤرق الزمن؛ يجبره على الإحساس بدقات قلب جابر.
يغيب بناء الشخصية في عمل حساوي لصالح حضور الأسئلة والأفكار، فالشخصيات هنا، تبدو مفككة، هشة، تشذ في تكوينها عن البنية الأساسية للرواية: شخص موسوس ينتقم من مدينته الهامشية بالروي؛ الحكاية بالنسبة له هي عالم آخر: محاولة خلق زمان جديد في مشهد أكثر سوريالية من استمناء البشر باستمرارية صناعة الأطفال لأحلامهم ضمن المقبرة.
رواية “الشاهدات رأساً على عقب” ليست رواية عن شخصٍ موبوءٍ بالأسئلة فقط، بل هي رواية واقع يتحد مع الموت في عبثيته، ويفترق عنه كثيراً في إيجاد متعة ما في البحث عن تفاصيل هامشية تُفزع الحياة من حياتها. هكذا، يبدو المشهد الختامي كأنه على جسر_الثورة_ وسط دمشق، يقف عليه زائر من مدينة سورية بعيدة، يشتهي الانتحار، دون أن يعرف القارئ إن كان قد فعله أو لا. ربما، كان الأحرى بكل واحد منا أن يسأل الآخر: ما حال الشاهدات اليوم؟!
http://orient-news.net/index.php?page=news_show&id=6334