الشباب السوري.. مستقبل جيل الحرب والتيه/ عبيدة عامر
محرر سياسي
“على قلق كأن الريح تحتي .. أوجهها جنوبا أو شمالًا” (المتنبي)
مثل المتنبي كأن الريح تحتهم، في قلوبهم قبور من أحبوهم، وفي عقولهم الفكرة ونقيضها، على كتف يحملون صخرة “سيزيف”، وعلى الآخر أحلامهم الصغيرة وأعباؤهم الشخصية، في الطريق الطويل الذي ما عادت تبدو نهايته، ولا إمكان للعودة إلى بدايته، بلا زاد إلا تجاربهم الكثيفة على عمرهم الصغير، قائلين لأهلهم امكثوا، لعلهم يأتون مما بقي في القلب من نار الثورة والثأر قبسًا، يستنيرون به في ظلام صحارى تيههم، أو يجدون بها ومنها وبقربها وبذكراها هدى.
“ما بعرف شو الصح/ لازم ساوي/ شو جاية”.. هكذا ستكون السمة العامة لأجوبة أي شاب سوري، مضطربًا في إجابة أسئلته الأخلاقية والفكرية والسياسية والشخصية، وغالبًا عليه القلق بعد أن هزم الخوف، والشك بعد أن عاش اليقين، في الثورة السورية التي أربكت العالم بأن يجد لها وصفها محددًا، ما بين الانتفاضة والقضية والأزمة والحرب، يصفها أحد الكتاب الساخرين بأنها “حرب أهلية مغلفة بحرب بالوكالة عالقة في حرب مقدسة”. حربٌ شيّبت أوباما، وأعادت ترتيب الخرائط الجغرافية والتاريخية والذهنية، والسرديات والأيديولوجيات الكبرى، والحياة الشخصية لكل من أثر وتأثر بها.
“بعد الانفجار حمل الشباب صخرة سيزيف من أهلهم، صارخين بـ”لا” في وجه من قالوا “نعم” لواقعهم وفي وجه نظامهم، وبدؤوا محاولتهم الجديدة في الخروج من التيه”
لم ترتبك حياة الشباب السوريين الذين وصل عددهم في عام 2011، بداية الثورة، لقرابة الـ 700 ألف شاب، لغياب توصيف الحياة بالمعنى الحقيقي لها، سواء من ناحية الاقتصاد أو التعليم أو الحريات السياسية والمدنية، فهم الشباب الذين ولدوا في أعوام مجزرة حماة عام 1982، فلم يعرفوها أو يسمعوا عنها سوى الأساطير أو الأسرار، وتشكل وعيهم مع حرب العراق واستغلال النظام السوري لها، وعاشوا فتوتهم وشبابهم مع انطلاق الثورة ليتذكروا، للمرة الأولى بعد ثلاثين عاما، ضحايا المجزرة، في أوضح تجلٍ على انفجار المكنونات مع الثورة، ونهاية “التابوهات”، وبدء مرحلة جديدة في حيواتهم، تمثل استكمالا لحياة أهلهم المسكوت عنها وتاريخ مجتمعهم.
بعد الانفجار حمل الشباب صخرة سيزيف من أهلهم، صارخين بـ “لا” في وجه من قالوا “نعم” لواقعهم وفي وجه نظامهم، وبدأوا محاولتهم الجديدة في الخروج من التيه، ومن ثم مرحلة جديدة من الانتقالات المكانية، الكثيفة بالتجارب والمليئة بالأفكار، ما بين داخل سوريا وخارجها، والقصة تروى على لسان أبطالها، ثلاثةِ شباب سوريين يمثلون نماذج وتجارب مختلفة، اختلفت في المسير، واجتمعت في التيه، وتجهل المستقبل.
(١)
في البَدءِ كانَ التيهُ مائدةً
وكانَ الموتُ ماءْ
في البَدءِ ضاعتْ أمةٌ
ولدتْ شموع الأنبياءْ!
سرقتْ من الغاباتِ صُفرتَها
ونامتْ في العراءْ
حتى إذا الريحُ استدارتْ
سافرتْ للكبرياءْ
طلبت والدة البراء (٢١ عاما) المنحدرة من عائلة إخوانية والمختفي والدها، أحد أعضاء تنظيم الطليعة في الثمانينيات بعد مجزرة حماة، وقتلت والدتها في المشفى على يد الأمن وشقيقتها باقتحام الأمن، ذات ليلة من ليالي عام البراء الثاني عشر، أن يرتدي أفضل ما لديه ويتعطر ليستقبلوا والده، ذي التوجه السلفي الجهادي، بعد أن كان يقال للطفل: إنه كان في سفر طويل ومتعدد، ليكتشف وهو يرى التابوت، دون أن يرى والده الذي منعه عمه من ذلك لكثرة الرصاص، أن هذه الأسفار الطويلة كانت بين فروع الأمن، قبل سفر أخير طويل إلى العراق، تخلله اقتحامات وحصار لقرية البراء كاملها من أجل والدته الغائبة لديهم لأيام.
ربّت ضابط أمن على كتف البراء يومها، وقال له: “ستكبر ولن تكون مثل والدك، صحيح؟”، ليرد عليه بالصمت، الذي كان كثيفًا بمقاطع العمليات في العراق وشعارات الفصائل وخطب زعماء السلفية الجهادية التي ملأ بها البراء طفولته، إذ كان يلوذ إليه، كلما توجهت العيون لتحية “الرئيس الخالد” حافظ الأسد، في المدرسة، لينفجر هذا الصمت، والتناقض ما بين الداخل والخارج أخيرًا بانفجار الثورة.
على مدى عقدين كاملين، منذ المجزرة وحتى وفاة حافظ الأسد، استغل الأسد مجزرة حماة، كحادث مؤسس في تاريخ ووجدان السوريين، ليحضر بنفسه في شوارعهم ومدارسهم، كرمز للخوف والرعب، ضمن ما تسميه الكاتبة الأمريكية ليزا وايدن بـ”السيطرة الغامضة”، المقيضة لكل حياة سياسية، صمتًا وخوفًا وعجزًا وغيابًا للفعل، جعلت سوريا ليلة وفاته واحدة من أسوأ اثنتي عشرة دولة في الحريات السياسية في العالم.
استمرت هذه الحالة الأمنية مع حكم بشار الأسد الابن، لكنها ترافقت مع حالة اقتصادية، وسعت لتوغل النظام من السياسة للاقتصاد، حيث حلت سوريا في عام 2011، عند انطلاق الثورة، في المرتبة ١٢٩ من أصل ١٨٢، في مؤشرات الفساد، فساد وصل إلى الجيش السوري، كمكان آخر لتجلي الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، من الاستبداد والإهانة والطائفية والفساد الاقتصادي.
كنا نُفصّلُ يأسَنا
شوقاً لفرحتِنا اليتيمة
“سيزيفُ” ملّ
ونحنُ ندفعُ وهمَ صخرتِنا العقيمة
——
(٢)
اليومَ جئنا
نقلبُ التاريخَ يا شجرَ الطغاة
من طلقةِ الثأرِ الأخيرِ
نُشعُ في كلِ الجهاتْ
أنّى التفتَ رأيتَنا
نحمّرُ مثلَ المعجزاتْ
لسنا نخافُ الموتَ
تحرُسنا صلاةُ الأمهاتْ
لم يكن لدى هزار (٢٤ عاما) ذلك الدافع السياسي والاجتماعي الذي كان لدى براء، كما أنها لم تكن مدفوعة بحالة اقتصادية، عند انطلاق الثورة، لكنها قررت المشاركة؛ لأن “الحالة لم تكن طبيعية” كما تحكي، ولأنه لم يكن هناك “أحد يصدق أو يقتنع أو يحب بشار الأسد”، لكن الخوف أخر الثورة ثلاثين عامًا، كسره جيل جديد لم ير حماة، ينتسب إليه البراء وهزار وعمرو، ثلاثة كانوا يتابعون معًا ومع جيلهم كله الربيع العربي بتركيز متفاوت، حيث كان الربيع فرصة امتدت لثأر براء، بينما كان حدثًا فارقًا في حياة هزار، فتاة بدأت تتأثر بالشأن العام للمرة الأولى، ودخلت بعده الثورة بكل ما تملك، وبدأت قصتها في سنواتها الخمس الطويلة.
كان عمرو مدفوعًا بما يسميه “شعور الواجب”، شعورٌ كان يسيره ويجبره على الخروج والمشاركة منذ بداية الثورة، بدون رفاهية الاختيار، والوفاء لأحمد البياسي الذي رفع هويته في بانياس كاسرًا الجدار الكبير “الذي له آذان” من الخوف والرعب، والوفاء لذلك الرجل الذي غير حياته، والذي داسه الجنود وهم يقولون له “هي مشان الحرية”، والوفاء لامرأتين من حمص، يستذكرهما بالدموع كلما شعر أنه يبتعد عن الطريق، وكان الجنود يسحبونهما بين الأبنية، واجبٌ يدفعه للشعور بالتقصير وإن بقي مقاتلًا للأبد.
من هذه السنوات الخمس الطويلة التي عاشها في الثورة، لا يذكر عمرو (٢١ عاما) سوى “اللحظات الحزينة والصعبة” كما يسميها، لحظات تشربها لنهايتها، منذ أيامها الأولى، عندما كان يخرج ليلًا ليرسم على الجدران، مع صديقه الشهيد الذي يحمل نفس اسمه، بضيعته في ريف إدلب، ريف شهد اقتحامات ومجازر؛ مما دفع أهله للخروج من القرية إلى دمشق، بعكس رحلة هزار وأهلها، الخارجين من حمص إلى قرية أخرى ينتسبون لها في ريف إدلب، كانت تشهد مجازر كذلك، وتختلف عنها، كثيرًا؛ مما دفعهم للخروج منها مجددًا إلى لبنان، ومنها إلى جنوب تركيا، بنفس ما حصل مع عمرو، لتتسع الدائرة من القرية/ المدينة، إلى البلد الآخر.
في ذلك الوقت، مع بدء المظاهرات السلمية، اضطر البراء ووالدته للخروج من اللاذقية إلى قريته في جبل الأكراد كذلك، وكانت والدة البراء تمنعه من الخروج في المظاهرات، لا خوفًا عليه، كما هو الحال مع هزار لكونها فتاة في مدينة كانت مليئة بالحواجز الأمنية والاعتقالات وإطلاق النار، بل لأنها “تخبئه للسلاح ليثأر”، وليبدأ مرحلته الجديدة التي ودّع بها اللاذقية، كما ودّعت هزار حمص، وهما يقولان إنها بضعة شهور وسيعودان، انتهت بهما، الآن، في كل من اسطنبول، وتورنتو، على التوالي.
لم يكن الحال لدى عمرو مشابهًا لحال البراء، أكبر إخوته وصاحب هدوء ووجه طفولي لم يغيره الجبل أو السلاح أو الحرب، والمدفوع دفعًا من والدته للعمل العام، بل كان مختلفًا تمامًا، فعمرو أصغر إخوته، ويملك روحًا غاضبة صدامية وسخرية لاذعة، دفعته للاختلاف مع عائلته، والجدال الدائم معهم ما بين حمل صخرة سيزيف، وبين الحياة الشخصية البسيطة لأي شاب في عمره، مثل الشهادة الجامعية والزواج، ليختار الواجب على العائلة، بعكس هزار التي ضحت بكل شيء لتبقى مع عائلتها الصغيرة، عائلة تمثل لها كل شيء، وتعلقت بها من طفولة عاشتها في الإمارات، وتشابهت معهما بتركها لدراستها الجامعية.
(٣)
نحنُ الربيعيونَ
رغمَ ضراوةِ الوطنِ/الخريفْ
جئناكَ
من مُدنِ الصفيحِ ومن طوابيرِ الرغيفْ
من قطرتينِ من السرابِ
وغرفتينِ على الرصيفْ
من حُزننا اليوميّ
حينَ يلفُ عالمنا الكفيفْ
تباينت الطرق، الجغرافية والشخصية، وتشعبت واختلفت ما بين أبطال تيهنا الثلاث، فمع عودة عمرو إلى المشفى الميداني على الحدود، استقرت هزار في مدينة حدودية لفترة غير قليلة، بينما التقى البراء بخاله، المنفي الذي لم يكن يعرفه قبل الثورة، في الكتيبة التي أسسها في الداخل، ليعمل معه إعلاميًا في الجبل.
“هزار عملت مع منظمة سورية في تجربة جديدة، تلقت بها الرفض وعدم الاحترام والنظرة الاستعلائية التي لم تحتمل أن تعيشها”
في هذه المرحلة بين عامي 2012 و2014، بدأ الفناء من الشخصي للعام لدى كل من هزار والبراء و(ع)، وكل أبناء جيلهم، ودخول التجارب التي كانت جديدة عليهم جميعًا، والتي كونت شخصياتهم وصقلتها للأبد.
لم يشعر البراء باللهفة التي سرقته من نفسه عندما أمسك السلاح الذي كان يعده به والده، وتعدّه له والدته، وأعاده له خاله، كما شعر باللهفة عندما أمسك أول هاتف يصوّر في حياته، فاستيقظ بداخله حس فنّي مختلف، كان يأخذه ويحدد مساراته ما بين تصوير المظاهرات والأماكن مع “عدسة شاب لاذقاني”، والاقتحامات والمعارك مع كتيبة خاله، رافقها عدد من الدورات التي أثبت بها نفسه، ووجدها، وفضل طلقة الكاميرا على طلقة الرصاص، لكنه بقي مرافقًا في هذه المرحلة.
بعكس البراء، لم يستطع عمرو -الذي كان أصدقاؤه يقتلون في المعارك- أن يتأقلم في المشفى الميداني، خارجًا منه إلى ساحة معارك متشابكة ومعقدة وبدائية، وبدأ يقترب من الأرض والتراب، بالخنادق والرصاص، حاملًا بداخله حبًا قديمًا وهوسًا للمونتاج والتحريك الفني للتصوير، دخل معركته الأولى، التي خسروها، كمقاتل إعلامي، فأصيب بالصدمة الكبيرة، وحده في ساحة ضائعة.
هذه الصدمة والساحة الضائعة أصابت هزار في جنوب تركيا، حيث وجدت نفسها كذلك في العمل التطوعي والإغاثي، لكنها وجدت ساحة مليئة بالمنظمات، كان كثير منها فاسدًا، وشعرت للمرة الأولى بـ “الشعور الصعب” الذي دفعها للبكاء والانهيار، عندما عرض عليها مقابلا ماليا بسيطا، وعمل عاما ضمن مرحلة هيكلة المؤسسات وتطورها مع مرور الثورة، وهي الصدمات المتتالية نفسها التي أصابت براء في المعارك الصعبة والقاسية في الجبل الوعر، جبل شاهد به مقتل عشرات الأصدقاء له؛ بسبب “سوء إدارة القادة للمعارك”، وسوء أدى إلى خسائر أكبرها خسارة معركة “كسب”، معركة كسرته بعد أن رأى أضواء اللاذقية للمرة الأخيرة حالمًا بالعودة إليها، ودفعته ليترك الساحة، ويرجع لأهله في جنوب تركيا، ويعمل مديرًا للعمليات مع منظمة إغاثية كبيرة، حاملاً كاميرته بجانبه، ومعايشًا الشعور الصعب نفسه الذي عاشته هزار، وليجد نفسه فجأة في ريف إدلب، من حيث مرت ومر عمرو الذي لم يستطع التأقلم به كذلك، بسبب الرفض الاجتماعي لإعلاميي الإغاثية، من ناحية، وسوء الإدارة ضمن الشبكة المعقدة من ناحية أخرى، لكنها صقلته كما هو، أبعد ما يكون عن السلاح.
هذه الصدمات دفعت هزار والبراء وعمرو جميعًا لطرق أخرى، راغبين أو مرغمين، فعاد البراء إلى أهله في جنوب تركيا، بعد شهرين من العمل الإغاثي، واقتحامات الجيش، وشعوره بالاشمئزاز من حالته حينها، والحالة ككل، لكنها لم تدفعه للهجرة إلى أوروبا، رغم إتاحة الفرصة له، ترافقت مع حالة قراءة كثيفة له، فتحت ذهنه وأعادت فتح أسئلة جديدة له، جعلته يشبه عمرو في خلافاته مع عائلته ككل، وسهلت عليه وفتحت له فكرة الانتقال إلى اسطنبول؛ ليحضر دورات مبدئية مؤقتة هناك، ومن ثم يقرر الانتقال لها أخيرًا.
وصلت هزار كذلك إلى اسطنبول، وكلاهما يحمل معه ما يعادل إيجارًا لشهر واحد فقط، عندما أتيحت لها فرصة عمل هناك، بعد أن انتقلت من جنوب تركيا إلى مدينة صغيرة؛ بسبب وجود أقرباء لها هناك، عاشت بها فترة أخرى من الملل والتعب والفراغ، لعدم وجود العمل، لكنها لم تتفق مثل البراء على حب هذه المدينة التي قرر أن يعيش بها ويجد حياته فيها؛ لأنها عملت مع منظمة سورية، في تجربة جديدة، تلقت بها الرفض وعدم الاحترام والنظرة الاستعلائية التي لم تحتمل أن تعيشها كذلك، ترافقت مع مكان صغير وغير مريح، استطاعت رغما عنه أن تجلب أهلها إليها.
(٤)
يا وجهَنا الوثنيَ
للبارودِ -مهما جُنّ- آخرْ
بالأمس قال البحرُ:
إن الموجَ -في الميدانِ- هادرْ
اسأله:
كيفَ تدفقَ الزلزالُ من غضبِ الحناجرْ؟!
ارحلْ لموتكَ مرتينِ
ولا تقفْ في وجه ثائرْ
قبل شهرين، التقيت عمرو في اسطنبول كذلك، وكان أبعد ما يكون مظهره عن المعارك، التي قضى بها سنواته الأربعة الأخيرة، إعلاميًا ومقاتلًا، وعمل في أفلام كبيرة لأكبر فصائل الثورة، ليقول لي ساخرًا في لحظة ترف هانئة ونادرة أمام البحر: “كنا عايشين”، لكنه يعيش في داخله الجملة الأخرى، ودموعه الغاضبة القريبة دائمًا، التي ما زالت تحفظ له لمعة عينيه حين يقول: “لا أعلم كيف يعيش هؤلاء الشباب”، وكان يبحث عن جامعة يستطيع بها أن يحصل على “شهادة” لأدائه الإعلامي الذي مكنه من المشاركة في أفلام طويلة وكبيرة وعالية المستوى لأكبر الفصائل الثورية، وشهد له كبار المخرجين، قبل أن يعود إلى الداخل ويحدثني بين أصوات القذائف في معركة فك الحصار عن حلب.
“لم تكن المعركة مع العدو الذي يعرفونه ويكرهونه ويحملون ثأرهم الأزلي معه في الثورة هو ما كسر جيل التيه، لكنه تجهم العالم البعيد ومشاهدته لهذا الشعب والجيل وهو يذبح أمامه، مرة أخرى، دون رد”
قبل هذين الشهرين بقليل، رقصنا ودبكنا وفرحنا في عرس براء والفتاة التي أحبها والتقاها في اسطنبول، بدأ معها بيتهما الصغير، تزينه معًا صورهما المميزة الجميلة. كان قد التقاها بعد أن وصل إلى اسطنبول بقليل، محتفظًا ببسمته الهادئة وصوته الطفولي ولكنته الساحلية الدافئة.
أما هزار، فقد التقيت بها مرة واحدة هنا في عمل جديد كانت قد ارتاحت به نسبيًا، واستطاع أن يجعلها تتصالح ولو لحظيًا مع اسطنبول، في رحلتها الطويلة من الفتاة المدللة لأهلها، إلى المعيلة لهم، والتي استطاعت منها أن تأخذهم إلى كندا للهجرة.
يتفق هزار والبراء وعمرو على أنهم لا يعلمون ماذا سيفعلون خلال السنوات القليلة القادمة، كما يتفقون كذلك على أنهم ليسوا نادمين على أية لحظة حزن أو تعب أو خوف مروا بها، مضطربين ما بين الصخرة الكبيرة التي أثقلتهم وتركوها قليلًا، ليعودوا لها، ولو بعد حين.
لم تكن المعركة مع العدو الذي يعرفونه ويكرهونه ويحملون ثأرهم الأزلي معه في الثورة هو ما كسر جيل التيه، لكنه تجهم العالم البعيد ومشاهدته لهذا الشعب والجيل وهو يذبح أمامه، مرة أخرى، دون رد، وفساد وسوء إدارة وخذلان القريب الذي تملك أمر هذا الجيل، ما بين سوء إدارة عملية، وصراعات شخصية وفئوية، على حجم المعركة، وثقل التضحيات، هي الصدمات التي ما زالت تترك ندوبها في أرواح هذا الجيل، في خمس سنوات قصيرة، ذلك الجيل الذي يعيش جزء منه مهاجرًا، وجزء لاجئًا، وجزء محاربًا، ولا وضوح لدربه، ما لم يتضح أفق هذه الحرب الطويلة.
أصبحت شهادة عمرو أو قدرته على رؤية أهله مرتبطة بالاتفاق الروسي مع تركيا، كما صارت قدرة براء أو عجزه على سفره لشهر العسل وثيق الصلة بقانون الأمم المتحدة الدولي، واعترافه بالنظام، كما أن مصير هزار في كندا كان ليختلف تمامًا لو أنها كانت في أمريكا بعد فوز دونالد ترامب، مؤثرين ومتأثرين، لا في المجال العام وحسب، بل بالمجتمع الدولي وآثاره عليهم، منتظرين نهاية تعيد هزار والبراء إلى بلادهم، أو صانعين لها مع عمرو ورفاقه في الخنادق.
يا وجهَنا الوثنيَ
صبرُ الأرضِ جفّ.. فلا مناصْ
الآن أوفى هُدهدُ الميلادِ
واقتربَ القصاصْ
ما نحنُ إلا فكرةٌ
طارتْ تُبشّرُ بالخلاصْ
حرّضْ علينا النارَ
فالأفكارُ يصقُلها الرصاصْ!
توقيعات على جدار الثورة – محمد عبد الباري
ميدان