الشباب والثورة السورية
سمير سلمان.
الكلام عن الشباب كفئة عمرية في المجتمع السوري , يبقى قاصرا , وصعبا بعض الشيء , بالنسبة لأي جهد فردي . بسبب من اتساع الموضوع من جهة , ولكونه – من جهة اخرى – ينضوي تحت مايمكن عنونته : غير المبحوث فيه . وفي الواقع , فان المواضيع السورية غير المبحوث فيها بشكل كاف تشمل كل شيء تقريبا . فمن مواضيع تتناول شرائح اجتماعية محددة كالشباب أو المرأة او الطفل أو المعاقين أو المشردين . الى أخرى تتناول مشاكل اجتماعية كالعنف الأسري أو الزواج القسري أو جرائم الشرف أو البطالة . أو قضايا تتعلق بسوية الوعي العام كالحفاظ على البيئة أو ترشيد استهلاك الماء والطاقة . أو حتى قضايا تقنية تتعلق بسلوكية المجتمع بدلالة القانون ومراقبة الدولة , كفوضى السير وضحاياه مثلا , أو طريقة انصراف الاطفال من مدارسهم بعشوائية تضعهم تحت رحمة عجلات السيارات ….. الخ . وحتى قضايا تخصصية تتطلب الكادر العلمي الناقد مثل مناهج التعليم في المدارس والجامعات . كل تلك المواضيع يمكن ادراجها بشكل أو باخر تحت عنوان : غير المبحوث فيه .
تشترك جميع القضايا المشار اليها أعلاه بكونها ليست قضايا فكرية تعالج ذهنيا بدماغ المفكر من مبتدئها لمنتهاها . بل هي قضايا اجتماعية تقتضي الدراسة الميدانية , والاحصاء . وتحتاج الى الخبرات العملية في اجراء الاحصائيات وعمليات الاستقصاء , واستخراج النتائج المترتبة . اي انها تعتمد الطرائق التي لم تتمرن عليها ولم تكرسها ثقافة الاهتمام بالشأن العام . تلك الثقافة التي انحصرت تقريبا , وتكرست , في الكلام السياسي والعمل الحزبي والتنظير الايديولوجي . ثقافة لم تعمل على توفير تقاليد الدراسات الميدانية المتخصصة بقطاعات محددة والتي تأخذ اشكال البحوث العلمية المنتجة عبر جهد جماعي أو مؤسساتي . ولايجادل احد الآن , في أن ذلك كان ردا على , ونتيجة في الوقت ذاته , لاستبداد نظام شمولي نجح الى حد بعيد في الغاء المجتمع السياسي وأنشطته الثقافية والعلمية .
اذن , من الأسهل , والأفضل , والحال هذه , الكلام عن الشباب السوري بالمقارنة مع الجيل السابق عليه , جيلنا الذي نعرفه , اباء الشباب المعنيين بالحديث . وإذا كان هذا المدخل – مدخل المقارنة – يتكيء على معيار ذاتي الى حد ما – وهو أمر لامناص منه – الا أن الثورة السورية بأبعادها الكاشفة لدرجة الاذهال , داخليا وخارجيا , تساعد الى حد بعيد على التوصيف الموضوعي للفئات الشبابية , من خلال دورها الرئيسي في الحراك الثوري وصناعة الثورة , ومواكبة تلك الثورة في جميع مراحلها المدماة .
…………………………………………………………………………
لابد أولا , وقبل الحديث عن علاقة الشباب بالثورة , من التأكيد أن المقصود بكلمة ” الشباب ” في حديثنا , تلك الفئة العمرية المولودة في الفترة الممتدة من بداية الثمانينات حتى أواسط التسعينات . أي مجموع الأفراد الذين تتراوح أعمارهم بين 18 – 33 سنة , وهو تحديد لايقتصر على العمر الزمني للأفراد , وانما يحدد الفترة الزمنية الخاصة , التي نشأ بها وتشكل وعيهم السياسي , وثقافتهم , وبنيتهم النفسية والأخلاقية . وهي الفترة ذاتها التي كان فيها النظام الشمولي لحافظ الأسد قد حسم صراعه مع جميع معارضيه . وتحقق له الهيمنة الشاملة على الدولة والمجتمع , مع مارافق ذلك من افقار شديد للسياسة والثقافة والفكر . ومن الضروري الاشارة هنا , ان انتصار الاستبداد الأسدي لم يكن على جيل الشباب موضوع الحديث , بل على الجيل السابق , جيل أبائه , بما فيه من معارضين سياسيين احتفظ عقلهم الباطني ووعيهم الفردي وذاكرتهم الجمعية , بكل اثار القمع الأسدي الشديد . دون ان يستطيع لاحقا نقل تجربته , ولا خطابه ( باستثناء الاخوان المسلمين ) , الى الجيل اللاحق , وهو امر سيترتب عليه اثارا سيئة ستتضح بعد قيام الثورة .
الشباب ومعنى الحرية :
لم يفهم جيل الشباب الحرية كما فهمها أباؤهم , فهي ليست ” مطلبا سياسيا ” تضمنته برامج سياسية للتغيير , وهي لاتأتي عندهم بالدرجة الثانية بعد المسألة ” الوطنية ” التي أخذ بها أباؤهم , كما أنها ليست مقولة من مقولات الفلسفة السياسية كما عند المثقفين . انها ببساطة , الحرية الفردية كما ينبغي ان تعاش في كل لحظة . انها البيئة التي يتطلبها كل منهم في علاقاته العادية مع الآخرين كواحد منهم , أو في علاقته مع رموز الدولة والسلطة كمواطن . فهي ليست مسألة نقاش وتفكر . بل هي اسلوب حياة اعتاده بفعل مستوى التطور الثقافي والحقوقي للبشرية , وبفعل الحداثة والعولمة التي هم أبناؤها . فهي اذن ليست مطلبا متأتيا من وعي ثقافي أو سياسي . بل هي ثاوية في ثقافة ” لاشعورية ” واحساس ” لاواعي ” بها . ولكنه احساس معاش بالحياة اليومية عندهم .
وفي الاطار المحلي السوري , فان الانفتاح الاقتصادي الذي شهدته سورية بعد رحيل حافظ الاسد , وما رافق هذا الانفتاح من تحلل متسارع في البنى الاجتماعية والعلاقات الاسرية , وتراخي القبضة الايديولوجية للفكر البعثي المتهالك . ادى الى تحلل القوالب الفكرية المتخشبة السابقة وتغلغل النمط الليبرالي في الثقافة والسلوك السائدين عند شريحة واسعة من المجتمع , ولاسيما فئة الشباب في غالبية المدن السورية . الفكر والسلوك المرافقين لسياسة “الاقتصاد الاجتماعي ” , وهي التسمية الرسمية الخاصة بسياسة النهب العلني للثروة الوطنية والمال العام . واذا قبلنا أن بشار الاسد لم يفعل سوى استثمار واستهلاك مابناه والده الدكتاتور خلال الثلاثين سنة السابقة عليه , يمكننا القول أن احدى النتائج الجانبية لمرحلة الابن , كان توسعا اضطراريا على صعيد الحريات الفردية اقتضته الاشكال الاستهلاكية لتلك الحرية . وضرورة تجديد دم السلطة . وفي الواقع , كان الشباب , لجميع الأسباب المعروفة , أكثر الشرائح الاجتماعية التي استفادت من هامش الحريات ذاك .
وبما يشبه الكلام عن الحرية ومحدداتها عند الشباب , يمكن الكلام كذلك عن الديموقراطية كصفة ملازمة لسلوكهم , وهذا التلازم ليس تعسفا ولا بحكم الصدف , فلا يمكن للمرء منطقيا ان يكون حرا اذا لم يكن ديموقراطيا ويصون حرية الآخرين . واذا تركنا الفلسفة السياسية جانبا , وتفحصنا الاسلوب الحواري للشباب على صفحات الفايسبوك , يمكننا بسهولة ملاحظة السوية النامية للروح الديموقراطية بين المختلفين في ارائهم , وكان ذلك جليا في الأشهر الأولى للثورة قبل ان تغرق المدن السورية بالدم . سوية ديموقراطية لانذكر انها كانت موجودة في مخاطبة القوى السياسية بعضها للبعض الآخر .
الشباب والثقافة :
في علاقة الشباب بالثقافة السياسية والتجارب التاريخية , نضع يدنا , كما ارى , على الحلقة الضعيفة في مكونات الثورة الشبابية . فبالعودة الى صفحات الفايسبوك ذاتها , كإستدلال اولي , وعلى العكس من مؤشرات تنامي الحس الديموقراطي والنزوع الشديد للحرية ورفض الظلم , نرى تدنيا واضحا في في مستوى الثقافة السياسية عند الجيل الشاب . وبقدر مايبدو واضحا لديهم مايثورون ضدده , لايبدو واضحا , من منظور سياسي , ماذا يريدون لاحقا. وهم لايخفون ذلك , ولايستطيعون اخفاؤه . فكتاباتهم ولغتهم تدل على فقر شديد في ثقافتهم السياسية , ويمكن ملاحظة هذا الفقر عند شرائح ذات تحصيل جامعي , اي أنها بمستوى علمي جيد , ولكن لايفيد ذلك في تعويض نقص الوعي السياسي , بل قد يضر على الأغلب , فهذه الشرائح لاتقبل ان تكون متبوعة من قبل أهل علوم الدنيا , السياسيون . وهي اكثر ميلا لقبول اهل الدين , الفكر السلفي . والاستعمال الغزير للغة العامية المقطوعة الصلة بالفصحى يؤشر الى العلاقة الضعيفة مع الثقافة السياسية والتراث الثقافي الانساني المكتوب . وليس تفسير ذلك بالأمر الصعب كما يعرف القاريء . فجيل الشباب ليس كسابقه , يفخر بمكتبته ويقرأ الصحف , ويصل الأحزاب السياسية , ويغذي ـ ويتغذى ـ من ايديولوجيته مطلقة الصحة , ويتابع يوميا اخبار الصراع مع العدو الاسرائيلي وموقف الحزب من اخر تطورات المنطقة التي تمر بمنعطف خطير . جيل الشباب ليس هكذا , هو جيل يحب الحياة الحديثة , ويكفيه التلفزيون وجهاز الكومبيوتر , وهو شاهد كيف امضى البعض من ابائه نصف حياتهم في السجون السياسية دون ان يقبل تبرير الأمر , لاتبريرهم ولا تبرير سجانيهم . فبدءا من أوائل الثمانينات , أي عندما بدأ جيل الشباب بالتوافد الى هذه الدنيا , كانت الشرائح الاجتماعية حاملة شعلة الثقافة في تراجع وانكفاء لحساب التيارات الدينية والفكر الرجعي , تحت تأثير الضغط الشديد الصادر من مؤسسات السلطة . اذن , يمكن هنا ملاحظة مايشبه فاصل زمني مابين جيلين , بالقياس الثقافي -السياسي . جيل انتهى تأثيره في منتصف الثمانينات , وجيل شاب تفتح وعيه في منتصف واواخر التسعينات . فجوة زمنية – ثقافية – سياسية لم تستطع الثورة السورية بكل زخمها , ولا المعارضة التقليدية بكل أطيافها , أن تردمها .
الشباب والثورة … والسلاح :
يعلمنا التاريخ , ان الثورات لاتهادن ولاتتراجع ولاتنكفيء , فهي , ككل كائن عضوي وليد , اما أن تنتصر وتحيا , او تموت . فهي اذن لاتقبل الموت الااذا استنفذت كل امكانياتها للمقاومة . وهذا ماجرى مع الثورة السورية , فهي خيرت من قبل النظام , بين الموت او الدفاع المسلح عن النفس . وليس هنا مجال النقاش في موضوع التسلح وجدواه كما يحلو لبعض مماحكي المعارضة تكراره بلا ملل . ولكننا نذكر ذلك لنقول أن السلاح اصبح واقعا قائما لامعنى عمليا للنقاش بجدواه . ولكن مادور الشباب في تحول الثورة التي بدات سلميا الى ثورة مسلحة ؟ وما سيكون تأثيرهم في مجمل احتمالات تطور الصراع القائم ؟
في البدء , لابد من التنويه على السحر الذي يفعله الاحساس بالقوة على الانسان في سن الشباب , وهذا الاحساس صفة اصيلة بالانسان في عمر الشباب , بسبب البنية النفسية العصبية , والثقافية ايضا . ويتهم الشباب دوما ممن هم اكبر سنا بالرعونة والطيش واستعمال لغة القوة الجسدية . ولكن يجب التمييز باصرار بين القوة والعنف , فالعنف لاتولده القوة , بل تولده فلسفة العنف , ايديولوجيا العنف , لذلك نستكمل المفارقة بالقول ان من يوجه الشباب اصحاب القوة الجسدية هم الكبار حملة فلسفة العنف , فلسفة الاستبداد . وهذا مايفسر كون جميع الاستشهاديين في الأحزاب العقائدية المتشددة هم من الشبان الصغار , فالشباب بحكم بنيتهم الذهنية العصبية اقل خشية من الموت مقارنة بالكبار . ومايهمنا من الأمر هنا هو التأكيد على بديهية ان الشباب هم اسرع الفئات العمرية استجابة للصراع عندما يتطلب عنفا مسلحا . وفي التوصيف العياني للعنف المسلح الجاري في الثورة السورية , نسارع الى القول أن العنف الممارس بالسلاح حاليا ليس استجابة لبرنامج سياسي لأطراف أخرى , بل هو الشكل الرئيسي القائم للدفاع الذاتي عن ثورة قام بها الشباب بشكل رئيسي , وهم نفس الشباب الذين ابتدؤا ثورتهم بالاحتجاجات السلمية , وهم نفسهم من قرروا الانتقال للعمل المسلح تحت طائلة الموت . الشباب الأكثر التصاقا بالحرية والأكثر تمسكا بالكرامة هم من لايزالون يرفضون الاستسلام الذليل للسلطة القاتلة رغم كل ماقدموه من تضحيات , لأنهم يعلمون أن الثورة ثورتهم , ومصيرهم يتقرر بها , وهم وحدهم من يقرره . واذا استطاعت الثورة ان تصمد كل تلك الشهور الطويلة بمواجهة اشرس نظام عرفه العالم , فليس ذلك الا بفضل شباب الثورة . فمنذ اندلاع الثورة دخلت المعارضة بكل أطيافها في متاهة التشرزم والتمزق والخيبة رغم التفويض الذي اعطي لها من قبل الثوار , ولم يقدم المجتمع الدولي للثورة الا الدجل الكاذب في مقابل الدعم الغير مسبوق لنظام القتل الجماعي . ولم يقدم لاالعالم العربي ولا الاسلامي سوى الاذن الطرشاء للسوريين الثائرين . فكيف استمرت الثورة كل هذه المدة اذن ان لم يكن بفضل الشباب الرافض للذل والظلم حتى الموت ؟
الجسد الشبابي للثورة هو ما أعاق محاولة السلطة لتحويل الصراع الى اشكاله الطائفية الى حد كبير , فبالرغم مما قلناه عن الفقر في الثقافة السياسية للفئات الشابة في الثورة , الا أن هذه الفئات تحديدا , بثقافتها الحداثية وتحررها من الايديولوجيات , وبرغم كل الثقافة والممارسة الطائفيتين للنظام على مدى أكثر من أربعين عاما , لم تستجر الى مستنقع الصراع الطائفي برغم كل المجازر الطائفية القذرة التي ينفذها النظام على كامل الفالق الطائفي في الديموغرافيا السورية . واذا لوحظ تصاعد الخطاب الطائفي في صفوف الجيش الحر مؤخرا , فهذا يفسره عوامل عديدة يأتي في مقدمها العنف الشديد والذبح الطائفي الذي يمارسه النظام متقصدا , ويفسره أيضا مصادر التمويل والمساعدة للجيش الحر التي تربط مساعدتها باجنداتها المعروفة , وايضا لاننسى الدور السلبي الذي ادته المعارضة السياسية الخرعة بفشلها الذريع , بل رفضها المتعنت , لتمثيل الثورة وقيادتها . وبالرغم من كل ذلك , يمكن الرهان , ان العنصر الشبابي للثورة سيتعلم من تجربته الذاتية كيف يسير نحو الانتصار . ولنا ان نتوقع بدون افراط في التفاؤل , أنه في اللحظة التي سيعلن فيها سقوط الطاغية , ستمتليء ساحات المدن من جديد بالمظاهرات السلمية , وسيستعاد اسم غياث مطر كأحد انبياء الثورة السورية .
خاص بصفحات سورية.
لم يفهم جيل الشباب الحرية كما فهمها أباؤهم , فهي ليست ” مطلبا سياسيا ” تضمنته برامج سياسية للتغيير , وهي لاتأتي عندهم بالدرجة الثانية بعد المسألة ” الوطنية ” التي أخذ بها أباؤهم , كما أنها ليست مقولة من مقولات الفلسفة السياسية كما عند المثقفين . انها ببساطة , الحرية الفردية كما ينبغي ان تعاش في كل لحظة . انها البيئة التي يتطلبها كل منهم في علاقاته العادية مع الآخرين كواحد منهم , أو في علاقته مع رموز الدولة والسلطة كمواطن . فهي ليست مسألة نقاش وتفكر . بل هي اسلوب حياة اعتاده بفعل مستوى التطور الثقافي والحقوقي للبشرية , وبفعل الحداثة والعولمة التي هم أبناؤها . فهي اذن ليست مطلبا متأتيا من وعي ثقافي أو سياسي . بل هي ثاوية في ثقافة ” لاشعورية ” واحساس ” لاواعي ” بها . ولكنه احساس معاش بالحياة اليومية عندهم .