صفحات الرأي

الشبح يهيم فوق الرؤوس


    محمود الزيباوي

 خرج المسيحيون تدريجياً من عهد الذميّة إلى الشراكة السياسية في مصر تحت حكم أسرة محمد علي باشا، وبلغ هذا التحوّل الكبير بلاد الشام في زمن “الحملة المصرية” التي دامت عشر سنين. شكّلت هذه السياسة منعطفاً جذريا في تاريخ العلاقات “الإسلامية المسيحية”، غير أنها لم تنجح في طرد شبح الفتنة الذي يعود ليهيم فوق رؤوس الجميع بعد عقود من الزمن.

عام 1951، صدر في مصر كتاب من تأليف جاك تامر عنوانه “اقباط ومسلمون منذ الفتح العربي إلى عام 1922”. كان مؤلف الكتاب لبنانيا يعمل في مكتبة القصر الملكي، وكان هدفه عرض “العلاقات بين الأقباط والمسلمين بدافع المؤرخ الذي يسرد الحوادث على حقيقتها، لا بشعور القاضي الذي يحكم بين الطرفين”، على ما جاء في المقدمة. نُشر هذا البحث في مرحلة متوترة سياسيا تميزت بصعود نجم “الإخوان المسلمين”، فأثار نقاشاً حادا، واتُهم صاحبه بتبني آراء معادية للإسلام، ولاسيّما في الجزء الذي عنونه “اتجاه العرب إلى اتباع سياسة استعمارية”. ذاع صيت الكتاب، ولم تتم إعادة طباعته بسبب “حساسية” محتواه، وصار من الكتب النادرة، إلى أن “تجرّأت” الهيئة المصرية العامة للكتاب وأعادت نشره منذ عامين.

يستعيد جاك تامر هذا التاريخ الشائك بتحولاته المتتالية في سبعة أبواب، فيستعرض أولا حال المسيحيين في الحقبة التي شهدت الفتح الإسلامي، ثم يقدّم قراءة مختصرة لموضوع “الشريعة الإسلامية وأهل الذمة”، ويصوّر بشكل مسهب “أحوال الأقباط الحقيقية تحت حكم الولاة”. في الباب الرابع، نتعرّف إلى أحوال الأقباط في زمن الدولة الطولونية والدولة الأخشيدية قبل أن ندخل زمن عظمتهم ثم اضمحلالهم في عهد الفاطميين. بعدها عصر الأيوبيين ثم المماليك، ونصل إلى الزمن الحديث مع الحملة الفرنسية. يأتي الفصل السابع، وعنوانه “تسامح أسرة محمد علي والاعتراف القانوني بالمساواة بين المسلمين والأقباط”. تشكل هذه الحقبة تحولا تاريخيا مفصليا تبدل فيه موقع الأقباط بشكل جذري. أبطل باني مصر الحديثة قيود الزيّ المفروضة على الأقباط منذ قرون، وشرع في تحقيق المساواة بين المسلمين والأقباط في الحقوق والواجبات، وعيّن مسيحيين كمأمورين على مراكز مهمة في مصر. من جهة أخرى، ألغى الباشا الكبير كل القيود التي كانت تُفرَض على الأقباط لممارسة طقوسهم الدينية، ولم يرفض للمسيحيين أي طلب تقدموا به لبناء الكنائس وإصلاحها. يقارن الباحث بين إصلاحات السلطان محمود الثاني وإصلاحات حاكم مصر، ويجزم أن السلطان العثماني “اكتفى بحذو محمد علي بالكلام لا بالأعمال، وقد صرّح بأنه يريد أن يلغي الفوارق بين أفراد شعبه المنتمين إلى أجناس أو أديان مختلفة، “غير أن هذه التصريحات لم تكن قاطعة إلا من حيث الشكل، ولم تُطبّق عملياً”.

الهلال والصليب

“كان محمد علي أول حاكم مسلم منح الموظفين الأقباط رتبة البكوية واتخذ له مستشارين من النصارى”. أثار هذا التحوّل حفيظة الكثير من المسلمين، كما شهد المؤرخ الشهير عبد الرحمن الجبرتي، غير أن الحاكم مضى بثبات في هذه السياسة الإصلاحية التي أخرجت المسيحيين من الذمية إلى الشراكة السياسية. دخل العنصر القبطي في صلب الأمة في ظل حكم الوالي سعيد باشا الذي ألغى الجزية المفروضة على الذميين في نهاية 1855، وشرّع في مطلع عام 1856 قبول النصارى في الجيش وتطبيق قانون الخدمة العسكرية عليهم. أكمل الخديوي إسماعيل هذه الإنجازات، ورشّح الأقباط لانتخابات أعضاء مجلس الشورى، كما عيّن قضاة منهم في المحاكم. على رغم ذلك، يصعب القول بأن هذه السياسة ساوت تماما بين المسلمين والمسيحيين. على سبيل المثال، دخل الكولونيل سليمان باشا في الإسلام بتشجيع من والي مصر، “حيث لا يجوز لغير المسلم أن يتولّى قيادة الجيش، ولا شكّ أن الوالي كان يعلم أن الوقت لم يحن بعد ليقطع صلته كلها بالتقاليد القديمة”.

أسس مصطفى كامل “الحزب الوطني”، ورأى “إن المسلمين والأقباط شعب واحد مرتبط بالوطنية والعادات والأخلاق وأسباب المعاش ولا يمكن التفريق بينهما مدى الأبد‏”. جذب هذا الشعار العديد من أعيان الأقباط، غير أنّ هذه المسيرة تعثرت بعد رحيل مصطفى النحاس في ريعان شبابه عام 1908. ظهر الخلاف بين الأقباط والمسلمين من جديد بسبب فكرة إنشاء “الجامعة الإسلامية”، وفجّر الأزمة مقال نشره الشيخ عبد العزيز جاويش في جريدة “اللواء” الناطقة بلسان “الحزب الوطني” تحت عنوان “الإسلام غريب في بلاده”. تجلى هذا الخلاف في الكتابات الصحافية المتبادلة بين 1908 و1911، وتأزّم بعد اغتيال رئيس الوزارة بطرس باشا غالي في شباط 1910 على يد الورداني، أحد أتباع “الحزب الوطني”. تجاوز الفريقان خلافاتهما في زمن سعد زغلول، وظهرت وحدة “عنصرَي الأمة المصرية” في ثورة 1919 حيث راح المشايخ يخطبون في الكنائس، والقساوسة في المساجد، وارتفعت الأعلام التي تجمع بين الهلال والصليب. أثمرت هذه الثورة، وكانت ثمرتها دستور 1922 القائل بمساواة تامة بين جميع المصريين، ودخل الأقباط يومها مجلس الوزراء بصورة “طبيعية”.

رافقت مجلة “اللطائف المصورة” مسيرة 1919، ونشرت في عددها الصادر في 28 نيسان صورة من المسيرة يظهر فيها شعار الهلال معانقا الصليب على راية من الرايات، وجاء في التعليق: “تناسى الجميع الخلافات والأحزاب التي كانت تفرقهم، ونبذوا الأوهام والعقائد والخرافات، وأقاموا لهم ديناً واحداً هو دين الله تعالى الذي أمر به في كتابه الطاهر، ونعني به دين المحبة، فمحبة الوطن وطّدت دعائم محبة المسلم للقبطي ومحبة القبطي لليهودي ومحبة اليهودي للسوري ومحبة السوري بالتالي لإخوانه، وجعلت الجميع يهتفون معا بصوت واحد ليحيى الوطن وليحيى الإخاء. وأدرك الناس عامتهم وخاصتهم على تباين أجناسهم ونزاعاتهم الدينية أن الوطنية الحرة هي فوق الأحزاب الدينية. وكان أعظم معاني هذا الفوز الأخوي يوم 8 أبريل، إذ ابتدأ باتحاد العنصرين المصريين الكبيرين العنصر القبطي المجيد والعنصر الإسلامي الكبير اتحاداً دُهش له الغرباء قبل الأصدقاء، واقتدى بهما سائر العناصر التي تتألف منها الأمّة المصرية الناطقة بالضاد، فقد أجمعت كلمتها على التآخي مع السادة المسلمين والأقباط، وتمّ بذلك اتحاد الأمة المصرية أجمعها اتحاداً جديداً عجيباً لم يعهد مثله في وادي النيل، هو عنوان فخر الوطن بأبنائه ورمز لتحقيق الأماني والآمال التي تجول في قلب كل مصري صميم. وأجمل تذكار لهذا التآخي الجديد الصورة المطبوعة إلى يسار هذا الكلام وهي تمثل عالماً أزهريا مدّ يده إلى قسيس قبطي علامة الاتحاد، وعقدت فوق رأسيهما رايتان إحداهما راية الوطن والثانية راية التسامح والإخاء وهي مؤلفة من الهلال والصليب، ووقف أعضاء جمعية الشبان المسيحيين وبأيديهم لوحة كتب عليها اسم جمعيتهم وقد صوّرها الخواجا خديج في محل الخواجا متري المصور المشهور، والصورة يجب أن يحفظها كل وطني غيّور شاهدا وتذكارا”.

في هذه الحقبة المضيئة من تاريخ مصر الحديث، لحّن فنّان الشعب سيد درويش “قوم يا مصري مصر أمّك بتناديك”، و”انا المصري كريم العنصرين”،”ما قولتلكش ان الكترة”. وردّد المصريون: “إن محمد يكره حنّا، ودخل دول ايه في ديننا”، و”اللي الأوطان بتجمعهم، عمر الأديان ما تفرّقهم”. تجلّت هذه الروح في نشيد من نظم بديع خيري تقول كلماته: “فيعش وطننا وحدته أملنا/ ما فيناش أقلية وأكثرية/ نجمع صليبنا ويا هلالنا/ في سبيلك أنت يا حرية/ عزّك حياتنا زلّك مماتنا/ يا مصر بعدك ما لناش سعادة/ لولا اعتقادنا لوجود إلهنا/ لكنا يا بلادي نعبدك عبادة”.

في بلاد الشام

بلغت سياسة محمد علي الإصلاحية بلاد الشام في ظل “الحكم المصري” الذي استمر من 1831 إلى 1841. قاد هذه الحملة إبرهيم باشا، إبن حاكم مصر، وعرفت بلاد الشام خلال فترة حكمه القصيرة تحولاً يماثل التحوّل الذي شهدته مصر. عومل المسيحيون معاملة المسلمين، وشكلت هذه السياسة صدمة عميقة في المجتمع السوري. قبل وصول إبرهيم باشا، كان القانون يحظر على المسيحيين لبس الحرير والعمائم البيضاء والخضراء والحمراء، كما كان يحظر عليهم انتعال الأحذية بهذه الألوان ويحّرم عليهم ركوب الخيل والسير في الطريق إلى يمين المسلم. رفعت السلطة الجديدة القيود عن الذميين من المسيحيين واليهود، كما رفعتها عن الوزراء الأجانب، وألغت المرتبات التي كانت مفروضة على المعابد والأديرة لجميع طوائف النصارى الكائنة بالقدس الشريف. مُنح حنا البحري لقب بك، وهو حمصي سافر إلى مصر وعمل فيها، وكان أول مسيحي يأخذ هذا اللقب، وقد كلِّف إدارة مال بلاد الشام، بينما عُيِّن أخوه جرمانوس البحري مديرا لمال مديرية حلب. أراد محمد علي من خلال هذه السياسة الانفتاح على كل فئات الشعب في إدارة شؤون البلاد، كما سعى إلى كسب ود الدول الأوروبية التي رفعت شعار “حماية مسيحيي الشرق” للدخول إلى هذه البلاد.

عاصر شاهين مكاريوس هذه الحقبة، ورأى أن إبرهيم باشا “حكم البلاد بالعدل والإنصاف والحزم والعزم إلى درجة لم تعرف عن الذين تقدموه من الأتراك”، و”جعل فاتحة أعماله تحرير النصارى من رقّ العبودية التي قيّدهم بها الأتراك مدة السنين الطوال، وأبطل الامتياز الذي كان للمسلمين في ملابسهم ومعيشتهم، وصيّر الناس سواءً أمام المحاكم التي أقامها للفصل في دعاوى الناس، وأدخل العدد الكبير من أهل الذمة في عداد الموظفين والمأمورين، فعيّن منهم الكتاب والضباط في الجيش والجندرمة والحكام والمعاونين من كل الأصناف”. في المعنى نفسه، تحدّث مخائيل مشاقة بإجلال عن الباشا المصري الذي فرض “العدل والقسط  بالرعية والمساواة بين طبقات القوم الرفيع والوضيع على اختلاف العقيدة”.

نقع على شهادات أخرى في نصوص الرحّالة الذين حلّوا في ربوع الشام في تلك الفترة، وتظهر هذه الكتابات كيف أثارت إصلاحات الباشا المصري عامة المسلمين في سوريا، ممّا يذكّر بما حدث في مصر. أدان عامة الدمشقيين خيانة السلطان محمود الثاني للإسلام وتبنّيه المعتقدات الأوروبية الحديثة، فرحبوا بإبرهيم باشا، ثم عادوا ورفضوا سياسته الغربية، وتصدّوا لدعوته التي تسعى إلى فرض المساواة بين أصحاب مختلف الأديان. عام 1932، نقل الرحالة بابتيستان بوجولا عن الممثل القنصلي لفرنسا في دمشق قوله: “قبل فتح ابرهيم لسوريا، لم يكن أي مسيحي مهما كان شأنه يستطيع أن يجتاز أبواب دمشق ممتطيا جواده، أو مسلحا ومرتديا زيا أوروبيا، وإن حراسا مسلمين كانوا يرغمونه على الترجّل عن راحلته قبل دخول المدينة، وكانوا يفرضون عليه دفع جزية، أما في الوقت الراهن فإن هذه الأعمال المذلة التي كانت تمارس ضدّ المسيحيين لم تعد موجودة”. بحسب هذا الرحالة الفرنسي، وسم مسلمو دمشق السلطان محمود الثاني بالخيانة  لأنه “أراد أن يدخل إلى تركيا بعض منجزات أوروبا المسيحية، وإبرهيم باشا الذي قدّم نفسه إليهم بصفته منقذا للإسلام، وجدوه يمشي بوقاحة تفوق وقاحة سيده في استانبول في مسالك التجديد الكافرة”. تتقاطع هذه الشهادة مع شهادة أخرى لرحالة من فرنسا، وهو ألفونس دو لامارتين. تحدّث الشاعر عن مسيحيي دمشق، وقال إنّ ثلاثين ألفا “من المسيحيين الأرمن الذين يسكنون المدينة في حالة ذعر ويخشون أن يتمّ القضاء عليهم إذا انتصر الأتراك مجدّدا، ولاسيما أن المسلمين مستاؤون من المساواة التي وطّدها إبرهيم باشا بينهم وبين المسيحيين، ثم أن بعض المسيحيين يستغلون فرصة التساهل معهم المتوفرة لهم ليشتموا أعداءهم وينتهكوا عاداتهم ما يذكي نار التعصّب بين الأديان”.

شبح الفتنة

سعى محمد علي باشا إلى إنشاء أمبراطورية عربية واسعة الأرجاء تضم مصر وبلاد الشام والسودان والجزيرة العربية، ودخل في مواجهة مع القوى الإقليمية انتهت بخروج قواته من بلاد الشام بعد التدخل العسكري البريطاني المباشر. اشتعل الصراع الطائفي في جبل لبنان، وتحوّل حرباً بلغت سوريا في عام 1860. ظلّت آثار الحرب حيّة في النفوس خلال عقود من الزمن حتى برزت “الثورة العربية الكبرى” التي دعت إليها الجمعيات العربية السرية في المشرق العربي، وجذبت هذه الثورة الكثير من المسيحيين، مثلما جذبت ثورة 1919 عدداً كبيراً من الأقباط، ونادى الجميع بنهضة الأمة. على امتداد القرن العشرين، في مصر كما في بلاد الشام، شهدت العلاقات الإسلامية المسيحية العديد من الاختبارات، وها هي اليوم تعود إلى المربّع الأوّل. يستعيد المصريون صورة الهلال معانقا الصليب، ويستعيد المشرقيون شعارات الإخاء والوحدة، غير أنّ هذه الصور وهذه الكلمات لم تعد تحجب شبح الفتنة الهائم فوق رؤوس الجميع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى