صفحات المستقبل

الشحاطة وأخواتها

مازن السيّد

 ملاحظة: قبل قراءة النص التالي، الرجاء أخذ العلم بأن الفيزيائي الشهير ستيفن هوكينغ المعروف بكثافة انتاجه رغم إعاقته الجسدية البالغة، قد أكّد البارحة أن أمام البشرية ما لا يزيد عن ألف عام قبل أن تواجه ضرورة استعمار كواكب أخرى للبقاء، ناصحاً بضرورة الإعداد للهجرة الفضائية.

“الشحّاطة” (أو الشحيطة) هي التسمية المنتشرة في المشرق العربي (أو بلاد الشام)، للنعال الرقيق الذي لا يغطي فيه القدمَ سوى شريطين متقاطعين يفصلان الإبهام عن باقي الأصابع. “شبشب” في المحكية المصرية، “شلاكة” في التونسية.

 في مجتمعاتنا تتخذ الشحاطة بعداً رمزياً لانتماء طبقيّ ما. فتراك وأنت تستمع لفئة من موالي النظام السوري، تلاحظ تواتر عبارة “أبو شحاطة” مترافقة بأسطول من مصطلحات الاستعلاء الطبقي التي تحرم الثورة السورية من أية شرعية كونها تتمّ على يد “الرعاع، أبناء الأرياف”، وهم بطبيعة الحال “زعران ومدمنو مخدرات”.

 لكن الأدهى، أنكّ ستسمع هذه المصطلحات نفسها على لسان فئة من معارضي هذه النظام و”أنصار” الثورة. “جيش أبو شحاطة” مثلاً، عبارة استخدمت كثيراً في سبيل ذمّ القوات النظامية على خلفية طبقية بالطبع، لا لمجرّد توصيف اللباس، كون العديد من مقاتلي المعارضة انتعلوا أيضاً شحاطات، وخاصة اولئك الذين لم تصلهم المساعدات الأميركية “غير الفتّاكة” متمثلةً بالأزياء العسكرية الموحّدة. إضافة إلى الشحاطة الشهيرة التي هوت على وجه مذيع القناة الرسمية السورية في حلب مع بدايات اهتزاز قبضة السلطة في المدينة-المعركة.

 لا نضيف شيئاً هنا إن قلنا أن ذلك من ظواهر الفرز غير الطبقي الذي يضرب مجتمعاتنا اليوم، ولكن ما نريد الإشارة إليه هو كيفية استخدام البرجوازيات (والكلمة ليست بالضرورة ذمّاً) لمصطلحات مشتركة في سياقات ايديولوجية وسياسية متضاربة تماما.

وفيما يرى الموالي أنّ شحاطة المعارض تعبير عن كونه “إسلامجياً شوارعجياً (أو فلاحاً)”، يرى المعارض أن شحاطة الموالي تعبير عن كونه “شبيحاً شوارعجياً (أو فلاحاً)”، وتتقاتل الشحاطتان في الميدان دون أن تدريان أنهما مذمومتين طبقياً من البرجوازيتين. إلا أن بينهما فوارق بالمقياس، لأسباب لا تقتصر على “الفلق” الذي تعرض له المعارضون السوريون مما يؤدي غالباً إلى تضخّم حجم القدم.

 الفارق في المقياس ناتج أساساً على معيار جديد، غير المعيار الطبقي، هو معيار “الاعتدال والتشدد”. فبينما أسقط مموّلو الشحاطة المعارضة عليها هذا السلّم الأخلاقي والغربال السياسي والعسكري، يكتفي مموّلو الشحاطة الموالية بدفعها بكليّتها نحو أقصى أنواع “التشدد”. لا مساحة للّين أصلاً، في معركة حماية النظام.

 هناك شحاطة تنضوي ضمن الكتائب الإسلامية التابعة ل”الاعتدال”، اصبحت اليوم تتباين تحت الضغوط الدولية مع الشحاطة الساعية إلى “الخلافة الإسلامية” الشاملة. الأولى تصبو في النهاية إلى الانتقال للحذاء الجلدي لاحقاً، أما الثانية فتصبو إلى الأقدام الحافية قرب أنهار “جنان الخُلد”، ولأنها كذلك فلن يسمح لها يوماً بالحكم، ولن تكون أكثر من نقطة اتكاء للأولى.

 هذا هو الخطاب السائد، رعب الشحاطات. لأن الناس أصبحوا هم أدوات التخويف، وفي نفس الوقت ضحاياها. ولأن الأحذية الجلدية بانتماءاتها السياسية المختلفة، متكاملة الغطاءات، فإنها قد سعت جاهدةً إلى ترميز الصراع طبقياً، كي تستمد شرعيتها من شحاطة “شارعها” مزدريةً شحاطة “الشارع الآخر”. هكذا يبقى ابن القصر في القصر، وابن الحيّ…في التابوت-الجسر.

 كلّ هذا ليس استثنائياً، إنما هو في معرض الاستكشاف لارتباط الأحذية بتفاصيل الصراع الحالي. الاستثنائي في سوريا، وفي بلاد عربية أخرى، أن أحذية الثورة كانت منذ البدء متنوعة، والأهم أنها كانت قد خلعت عن نفسها رمزياتها المتوارثة، وأعادت الأولوية لا للسياق الطبقي ولا الطائفي ولا حتى السياسي، بل للسياق الوطني.

لأنها ثورة لخروج الأحذية عن مسارات أقدارها المحتّمة التي كانت تمرّ دائماً ب”الجزمة العسكرية”.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى