الشخصية المفهومية في الثورة السورية
عمر كوش
مع اقتراب الثورة السورية من أتمام عامها الثاني، لا يسعني سوى التوقف عند الاستعداد اللا محدود للتضحيات، وعند معاني ومدلولات الشجاعة والبطولات المنقطعة النظير، التي يسطّرها الثوار السوريون، في مواجهة ما تقوم به قوات جيش النظام السوري وأجهزة أمنه وميليشيات شبيحته، من أعمال قتل ومجازر وجرائم، وقصف بالصواريخ والطائرات للمناطق المدنية.
ويجتاحني السؤال عن الكيفية التي أفضت إلى نهوض الثورة السورية، وعن العملية التأسيسية المرافقة للكيان الاحتجاجي. ويذهب التفكير نحو فضاءات جديدة، مميزة بتراكيب غير عادية، وبأرضيات غير قابلة للاحتواء، حيث التضحيات وقوافل الشهداء تطبع طرق القدر الجديدة، وتخطّ ملامح مستقبل جديد.
يمكن القول، ببساطة، إن ما يحدث منذ عامين، هو احتجاج ورفض من لدن جماعات واسعة من السوريين، العاديين والمهمشين، على عقود مديدة من الاستبداد المقيم وامتهان كرامة الناس، وعلى الأزمة الاجتماعية العميقة، وعلى الاستبعاد والاستعباد والإقصاء والتمييز في كل شيء. ويعبر عن مدى احتقان كتلة شعبية هائلة، مأزومة وقلقة. كتلة لم تجد أي تعبير سياسي لها في ظل النظام الأسدي، العائلي والمافيوي، يمكنه أن يفتح لها في الفضاء أفقاً، ويمنح مشاركتها في الحياة العامة معنى وتأثيراً.
وبالرغم من الأثمان الباهظة للحراك الثوري السوري، على صعيد المعاناة والتضحيات بالأرواح، ودمار أماكن السكن ومصادر الرزق، فإن لا شيء يخفف من رغبة السوري في الانعتاق والتحرر، والرغبة في الوصول إلى فضاءات جديدة، وبناء صروح الحرية وتشييد مقاماتها.
وإن كان ثمة مناسبة للحديث عن تضحيات السوريين في زمن الثورة السورية، فإنه لن يخرج عن تناول الإنسان البسيط، العادي، المقموع لعقود طويلة، والذي خرج متظاهراً سلمياً في الخامس عشر من آذار / مارس 2011، كاسراً حاجز الخوف، الذي بناه النظام الأسدي في عهدي الأب والإن، ومتحدياً بجسده العاري رصاص قوات النظام واستخباراته وسكاكين وسيوف الشبيحة وجرائمهم. وهو إنسان بالمفهوم الشائع للإنسان، اكتشف صوته وجسده، وراح يعبر عن ذاته في تظاهرات الساحات والشوراع والأزقة، غير آبه بالثمن الذي يدفعه، نتيجه خروجه من القوقعة المظلمة، التي حبسته فيها أجهزة النظام لمدة تزيدة عن أربعة عقود مديدة.
ويحيلنا مفهوم الإنسان البسيط، من عامة الناس، أي من العوام في عالم الثورة، إلى عالم المواجدة والتحايث، الذي يمنح الإبداع وجوداً مستقلاً، حيث يتخلى إنسان الثورة عما تتمسك به ذاكرته الموروثة من كل براثن النظام وشخصناته ورموزه، وتدخل عالم الاختلاف والغيرية، حيث مفاهيم الثورة وشخصياتها المفهومية كليات غير متراصة وغير متطابقة، ما يعني تشظيها، مع أن الثورة وإنسانها متقاربان بشكل كبير، إلا أنهما غير متطابقين فيما بينهما.
وقد ارتبطت الثورة السورية بشخصية المتظاهر السوري، ذلك الإنسان المقموع، الذي تحول إلى بطل مفهومي في حدث الثورة، حين ظهر في احتجاجات وتظاهرات دمشق ودرعا وبانياس والبيضاء والميدان والزبداني وحمص وحماة ودير الزور وجامعة حلب وكفرنبل وبنش والباب وسواها. وتكونت شخصيته في مشاهد الحراك الثوري، التي لا تزال ماثلة في الأذهان، حين خرجت مدينة حمص إلى اعتصام ساحة الساعة، الذي أنهاه النظام بمجزرة، وحين خرجت مدينة حماه عن بكرة أبيها في تظاهرات سلمية لعدة أسابيع، أنهاها النظام أيضاً بارتكاب مجزرة، ثم عندما خرج معظم أهالي دير الزور في حراك سلمي مشهود، تكرر الأمر ذاته.
وقد سطرت كل من داريا وحرستا ودوما والميدان والمرجة وبستان القصر ومدارس حلب وجامعتها حلب وكفرنبل وبنش وسواها، أمثلة على بطولات مفهومية، بوصفها أمكنة أجساد لمحتجين سلميين قدموا من سائر مناطق سوريا، وشهدت حالات جامعة لمختلف مكونات الشعب السوري، بل وشكلت إيقونات لهوية وطنية جديدة.
ولعل الثورة السورية ارتبطت رمزياً بصور شهداء المجازر المحمولين على الاكتاف، فيما المشيّعون لم يسلموا بدورهم من أعمال القتل، بل كانوا يتعرضون على الدوام، ومازالوا، للقصف بمختلف أنواع الأسلحة، ويتحولون بدورهم إلى شهداء، لتتحول مواكب التشييع إلى حدث رمزي، يرتقي إلى مقام مفهوم، يرتبط بحدث الثورة التاريخي، وينتج عنه مركبات ودلالات، ويرسم معنى جديد للبطولة، بوصفها تجسيداً لرفض الإذلال والمهانة والخنوع، لذلك ليس مصادفة أن يطالب المحتجون السوريون، الذين خرجوا منذ بداية الثورة، باسترجاع كرامتهم المهدورة. وتجسد هذا المطلب في شعار ثورتهم التأسيسي، حيث أنطلق شعار “الشعب السوري ما بينذل”، في أول تظاهرة عفوية، ملأت ساحة الحريقة في قلب دمشق التجاري في السابع عشر من شباط /فبراير 2001، ثم تأقلم هذا الشعار في مدينة درعا في صيغة: “الموت.. ولا المذلة”.
ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل دخل مفهوم الكرامة إلى كوجيتو الثورة السورية في تلك العبارة، التي نطق بها أحد الشخصيات المفهومية للثورة السورية (أحمد عبد الوهاب)، حين صرخ بكل جوارحه، دون خوف او وجل، أمام الكاميرا: “أنا إنسان.. ماني حيوان”.
والواقع هو أن المحتج السوري، الذي بنى الشخصية المفهومية في الثورة، تحول إلى مشروع شهيد، لكنه لم يجنح نحو الاستثمار المفرط للتظاهر من أجل التظاهر، كما لم يواجه جيش النظام وأجهزة أمنه وشبيحته من أجل الموت، بل من أجل التحرر والخلاص مع الاستبداد، أي كي ينال حريته وحقوقه، ويحقق تطلعاته في سوريا جديدة. سوريا الدولة الوطنية المدنية. دولة المواطنة المتساوية والتعددية والديمقراطية، واقتضى الدفاع عن ناسها حمل السلاح ومواجهة آلة القتل الأسدية، في اقتران بيّن في الثورة ما بين الحرية والتحرر، وبات للثورة مكوناً عسكرياً، من أجل رد العدوان، وخلاص الإنسان، وتحرير الوطن.
وإن كانت ثمة علاقة بين الثائر السوري وسلوكه الحياتي، وبين الثورة التي يستشهد من أجلها، فإنها لم تأخذ شكل علاقة الضرورة الإلهية، إلا حين ترك السوريون يواجهون لوحدهم الموت على يد قوات النظام، دون أن ينصرهم أحد على الظلم، وبات شعار “يالله مالنا غيرك”، يلخص مفهوماً جديداً في الثورة، يخط استعانة الثورة بشبابها الذين حملوا السلاح، وبضباطها وجنودها، الذين رفضوا إطلاق النار على ذويهم وأهاليهم، كي يشكلوا جيش الثورة، دفاعاً عن حاضنة الثورة وناسها.
المستقبل