صفحات الثقافةممدوح عزام

الشرطي والحسّون/ ممدوح عزام

 

 

في قصته، “عاد المدمن”، يحكي لنا سعيد حورانية (1929 – 1994) عن طائر يسميه “حسًون الدنان”، اعتاد أن يختار أكبر ثمرة في شجرة الرمان، فيمسك بغصنها ويقصّه بلطف، فتسقط الرمانة الناضجة على الأرض اللينة، فيدحرجها بشغف إلى طرف وهدة تخفى على الأعين، ويروح ينقرها حتى يسيل دمها.. فينصرف مُزغرداً لحظاتٍ يعود بعدها إلى كنزه، فيمص من جديد السائل الحلو اللذيذ، ويظل يتابع طيرانه ورشفه حتى يفرغ رمانته من لبِّها تماماً، فيتركها في الشمس حتى تيبس.

لا يكتفي الطائر بهذا، فسرعان ما يمضي إلى أشجار التين والعنب، ويأتي بثمارها، ليملأ بها الرمانة الفارغة، ثم يختم الحبة الممتلئة بالقش والطين، ويدحرجها إلى حفرة ويغطيها بالتراب إلى أن يأتي الشتاء.

يشبه القاص، الذي رحل عن دنيانا منذ عشرين عاماً، “حسّون الدنان” الطائر، فقد قطف ذلك “السائل الحلو اللذيذ” من قاع الشعب، وقدم لنا تلك الشخصيات المغمورة الممتلئة بالحكمة وحب الحياة، غير أنه يتعرض فجأة في قمة عطائه لانتكاسة قبيحة، تغير منحى حياته كله:

ذات يوم تقتحم الشرطة اللبنانية غرفة القاص السوري، الذي كان هارباً من مباحث الوحدة السورية المصرية، إثر وشاية، وتعثر هناك بين أوراقه على اثنتين وخمسين قصة قصيرة، ورواية اسمها “بنادق تحت القش”. تُصادر الأوراق كلها، ثم يأتي الأمر بإتلافها، بعد أن حُكم عليه بالسجن ثلاث سنوات، خُفّفت لسنة واحدة، بتهمة إرسال ناس ضد الرئيس جمال عبد الناصر، وتُحرق بالكامل.

كان سعيد حورانية قد أصدر مجموعة قصصية واحدة، هي: “وفي الناس المسرّة” قبل ذلك بعدة سنوات. ويبدو أنه كان قد احتفظ في مكان ما بقصص أخرى غير تلك التي أُحرقت، فأصدرها بعد خروجه من السجن، في مجموعتين هما: “سنتان وتحترق الغابة”، و”شتاء قاس آخر” عام 1964.

الغريب أن القاص الذي فاز في بداية الخمسينيات بالجائزة الأولى، في مسابقة القصة القصيرة، في دمشق، عن قصته: “الصندوق النحاسي”، أخًرَ نشر تلك القصة إلى المجموعة الثالثة، “شتاء قاس آخر”، ثم صمت بعد ذلك.

لا نستطيع التكهن بالسبب، فقد انتمى سعيد حورانية إلى الجيل الأدبي الذي كان يحمَل الكاتب أعباء اجتماعية وسياسية وفكرية وفنية، الجيل الذي آمن بدور الكاتب في تجديد الأمل، وفي الدعوة إلى التغيير، أو في إنشاء الرسالات الأرضية، حتى تجرّأ النقد العربي على تسمية بعض الأعمال الأدبية بالنبوءات.

وأظن أن من يقرأ قصص حورانية، سيشعر بوطأة الصمت، ذلك أنها في تنوعها وفي تجديدها الفني أو في اختيارها لأشكال الكتابة المتنوعة، تشي بعمق الموهبة، وأصالة الشخصيات التي تنتمي بقوة إلى ترابها، من جنوب سورية إلى شمالها، حيث عمل مدرّساً للغة العربية.

هل هو الحزن؟ أم الإحباط؟ ففي آخر لقاء معه، قال: تصوروا أن شرطياً صغيراً يمكنه أن يمحو جهد سنوات؟ ثم أضاف: كان هذا أفظع شيء حدث في حياتي على الإطلاق.

غير أنه لم يتبع خطى طائره، فبعد أن تعرض لمحاولات الإبادة من المزارعين، عاد الحسون إلى ثماره يملؤها بالتين والعنب من جديد.

* روائي من سوريا

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى