الشرق الأوسط، نعيش جميعاً أو نموت/ غازي دحمان
مرت فترة قصيرة، راح يتشكّل خلالها حزام صدأ حول منطقة الشرق الأوسط، كل محرّكات الصراعات بدأت تنطفئ، وكل شيء على الجبهات بدا هادئاً، من أفغانستان إلى فلسطين، وما بينهما العراق ولبنان صارت الأحداث تتحرّك برتابة، حصار غزة أصبح خارج سياقات الاهتمام العالمي، الحدود بين لبنان و”إسرائيل” صارت ملعبا لقوات الطوارئ التابعة للأمم المتحدة (يونيفيل) واختفى المتصارعون، حتى جبال قنديل انطفأت نيرانها وانتقلت الفعالية إلى حوارات عبدالله أوجلان مع الأتراك في سجن إيمرلي.
ارتسم في هذه الأثناء سياق بديل، انخرطت المنطقة كلها في تعاريجه، الالتحاق بالعولمة، بفرصها واستثماراتها ومكاسبها، حتى صارت الهدف الأسمى للأنظمة والنخب، ما دامت هذه العولمة لا تشترط على المنضمين إليها إجراء تغييرات هيكلية في أنظمتهم السياسية، بل مجرد هيكليات مالية ولصالحهم، من أجل تعظيم استثماراتهم وأرباحهم، وقد أوجدت العولمة ملاجئ يستطيع هؤلاء إخفاء إمبراطورياتهم المالية عن عيون الحساد والمتربصين، في بنما ولختنشتاين وحتى سويسرا، وقد سموها الجنات الضريبية.
على وقع هذه التطورات، صارت السلطة جنة حقيقية، صار الحاكم يمتلك المجد من كل
“إذا كانت الثورات ممنوعةً، فالدفاع عن الحياة لا يمكن لأي قوّة أن تمنعه”
أطرافه، الثروة والسلطة والرفاهية، وصار الحكم لعبة المرفهين. وشهدت هذه اللحظة بالذات تحوّل الحكام إلى آلهة، بكل معنى الكلمة، إذ تحوّل بشار الأسد، هو وزوجته أسماء، إلى نجوم يجود إعلام الغرب بطرح الألقاب عليهم، وكان حسني مبارك قد زهد الحكم، بعد أن سلّم مقاليد السلطة لأولاده، جمال وعلاء، يديرانها عبر توزيع المهام وإدارة التوازنات بالمحاصصة وغيرها. أما معمر القذافي الذي سلّم البلاد والعباد لأولاده الخمسة فقد أصابه ملل فظيع من زخرف الحياة، ولجأ إلى الصحراء يتأمل فيها، في حين ينشغل مكتب القائد في سرت بتنظيم برنامج لتعديل مزاج القائد، عبر تنظيم زيارات فنانين من مصر وسورية، وإحضار مشاهير يسلون القائد في عزلته.
بالطبع، لم يكن الأمر مقتصرا على هذه البلدان الثلاثة، فقد انخرطت جميع أنظمة الحكم ونخب المنطقة في سياق العولمة، واقتناص مكاسبها، بعد أن عملت على تشريع كل شيء، من بيع ثروات البلاد إلى المحاصصة مع المستثمرين الخارجيين والشراكة مع أثرياء البلاد. وبرزت في هذه البلدان ظاهرة صناعة الواجهات، بحيث يظهر على الساحة الاقتصادية، وبشكل مفاجئ، شخصية مجهولة تصبح، بين يوم وليلة، حديث البلد، كما برزت، في هذه المرحلة، اللجان الاقتصادية والمالية في قصور الرئاسات والملوك العربية، وأصبحت مهمتها مراقبة الحركة الاقتصادية في البلاد، لا لشيء وإنما لضمان حصة الحاكم وعائلته. باختصار، أصبح عنوان المرحلة الشرق أوسطية، تنافس العائلات الحاكمة حول من ستكون ثروته أكبر، ونجوميته أكثر لمعاناً.
في هذه المرحلة، اطمأنت أميركا، وهي القوة الأكثر تأثيرا وفعاليةً في المنطقة على مدى أكثر من نصف قرن، إلى استقرار الأمور في المنطقة، وسلوكها مساراتٍ إيجابية وفقا لتقديراتها، وما دامت خطوط نقل النفط سالكةً، والأسواق مستقرّة، وجميع مخارج المنطقة ومناطقها بيد واشنطن، وأصبحت أنظمة المنطقة ونخبها داخل المدار الأميركي، فإن واشنطن تستأذن الرحيل إلى شرق آسيا.
مرحلة موت الشعوب، هي هذه المرحلة، أو قل عدم رؤيتها والاستهتار بكينونتها، من الأنظمة والنخب. وعلى الرغم من بهرج العولمة، بتقنياتها وتصميماتها المدهشة، مدن من بلور وسيارات فارهة وفضائيات لا تحصى، إلا أن الشرق الأوسط بدا موحشاً، وهو يبدل جلده بسرعة، وبما يتناسب مع مصالح نخب العولمة وذوقها، ولم تعد تسمع في بطاح الشرق الأوسط غير أنين الفقر والتكاليف الباهظة، وغير الشكوى من هبوط الذوق العام في كل المجالات، من الطعام إلى الموسيقى إلى المحتوى التلفزيوني والسينمائي، وكان ذلك مؤشراً على مدى فظاعة عملية التحوّل القسرية المفروضة على الشعوب من جهة، والاستهتار بذوقها وقيمها وتفضيلاتها عموماً.
ليس سراً أن حالات الموت كانت تتكاثر بطريقة ملفتة، وتحصد الشباب ومتوسطي العمر،
“ما دامت الأنظمة تصر على عدم التغيير، والاستمرار بأساليبها السابقة، فليس للشعوب إلا العمل”
وخصوصا بالجلطات والسكتات وأنواع السرطانات المختلفة، وهي حالة ليس لها نظير تاريخي، سوى مرحلة دخول شركات النهب الأوروبية إلى أفريقيا وإجبارها شعوب القارة على ممارسة أعمال غريبة عنهم، وإطعامهم أنواعا من المأكولات لم يألفوها سابقا، حيث جرى انتزاعهم من سياق حياتهم إلى أنماط حياة مختلفة، وهو الأمر الذي صوّره جوزف كونراد في روايته “قلب الظلام” ببراعة وشفافية، إذ يؤكد أن الجثث كانت تملأ الطرقات، وخصوصا بالقرب من مراكز الشركات الأوروبية ونطاق عملها.
لقد أسست هذه المرحلة، بجدارة، للربيع العربي، فخرجت الشعوب عن بكرة أبيها، لأن الخطر كان كبيرا، ولم تنتظر حتى ترتب نخب الثقافة والسياسة أوضاعها، الأمر لا يحتمل انتظار المزيد. بات الجميع في دائرة الخطر، والتعجيل في الثورة محاولة مستعجلة للخروج من دائرة الموت الجوال، وكانت التكنولوجيا والتمدن السريع قد حطّمتا الريف، وصادرتا منه استقلاليته واكتفاءه الذاتي، ليتحوّل إلى متطفل على المدينة في ضواحيها الصفيحية.
ربما فشلت تلك المحاولة لأسباب كثيرة، لكن الأمور لن تعود إلى ما كانت عليه سابقا، وإذا كانت ثورات الشعوب ممنوعةً، فالتمرّد الفردي لا يمكن ضبطه. لذا لا يمر يوم واحد في غالبية بلدان الشرق الأوسط من دون حصول جرائم سطو واحتيال وقتل. يسمي بعضهم هذه الظاهرة بصدمة العولمة، حيث وجد الفرد نفسه ضعيفا معزولاً ومهمشاً في مواجهة إمبراطوريات المال، وقد يكون ذلك صحيحاً، غير أن المؤكد أن توحّش النخب لعب دوراً مهماً في تحريك قيعان المجتمعات، وتثوير غرائزها ومخاوفها.
أدى ذلك إلى نكوص المجتمعات إلى مكوناتها الأولى، العائلة والعشيرة والطائفة والإثنية والمناطقية، وسيلة دفاع، بعد أن سقطت دولة النخب اللصوصية في أداء هذه المهمة. وإذا كانت الثورات ممنوعةً، فالدفاع عن الحياة لا يمكن لأي قوّة أن تمنعه، وثمة وسائل عديدة لتحقيقه، عبر التفكّك والتمرّد المناطقي، والاستقلال الطائفي والعرقي. وما دامت الأنظمة تصر على عدم التغيير، والاستمرار بأساليبها السابقة، فليس للشعوب إلا العمل وفق قاعدة إما أن نحيا جميعا أو نموت معاً.
العربي الجديد