الشرق الأوسط الجديد: قرار الكبار!/ محمد قواص
في عواصم مختلفة، وتحت سقوف متعددة، تنشط ثلاث ورش لإخماد ثلاث أزمات تفتك بدول عربية ثلاث. يتولى المجتمع الدولي، لا سيما بعد صدور القرار الأخير في شأن سورية عن مجلس الأمن، تعبيد خريطة طريق جديّة للوصول إلى حلّ ينهي المأساة السورية، فيما تعوّل القوى الكبرى على مفاعيل اتفاق الصخيرات لإرساء الحلّ في ليبيا، وتجهد الآليات الدولية لتنظيم نزول القوى اليمنية عن أشجارها في مفاوضات جنيف. وفي كواليس الورش ما يشي باندفاعة دولية جدّية للسيطرة على براكين لم تكن تُقلق العواصم الكبرى قبل ذلك. عملياً لم يتغير شيء في المشهد الدولي لصناع التسويات كما عرفناه خلال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية. تُمسك العواصم التقليدية الكبرى بتلابيب الفعل، فيما تلعب القوى الإقليمية الأخرى على تنامي أهميتها دوراً ثانوياً، يكاد أن يكون في أحسن وجوهه مكملاً، إذا لم يكن تابعاً، لجهد الكبار. على هذا تُصاغ المعادلات وفق ما ترتئيه الدول الكبرى مناسباً وفق تقويمها لحساب الأرباح والخسائر الميداني، كما استشرافها لمصالحها مجتمعة.
حين يتمُّ استخدام تعبير «المجتمع الدولي» الذي يرعى المصالحات ويحفر مخارج الخلاص، قد نتساءل مَنْ هو هذا «المجتمع الدولي» في هذه الأيام؟ أهو الدول الغربية التي «أنهت التاريخ» بقيادة الولايات المتحدة بعد سقوط الندّ السوفياتي؟ أم الدول السابقة الذكر ولكن الآخذة بالحسبان دور ووزن الصين وروسيا ودول أخرى (البريكس مثلاً)؟ أم هو هذا كله مضافة إليه دول إقليمية كبرى في منطقتنا كإيران وتركيا والسعودية ومصر وإسرائيل؟ وفي ضوء تعرّفنا إلى هوية «المجتمع الدولي» يصبح في الإمكان فهم وتحليل وتعليل الورش الناشطة لإطفاء الحرائق.
في إجماع العالم على محاربة «داعش»، سواء بتحالف دولي معلن أو بتحالف إسلامي، يبدو هذا العالم مشوّهاً في تقديم نفسه منسجماً موحد المصالح. فسنّة الوجود تدحض تلك الطوبى، لا سيما في وقائع تعايش الدول، ما قد يعقّد الفهم، ويجعل تفسير اليوميات الطارئة على مناطق النزاع تمريناً تخمينياً ساذجاً. تلك الحقيقة جلية من خلال البون الشاسع بين المعلن من على منابر المحافل وذلك الجاري في الميادين في تفاصيله التحاصصية وارتباطها بامتدادات إقليمية دولية.
ممكن الجزم، في زمن ترون فيه النسبية ويتلاشى كل مُطلق، أن المشترك الأبرز الذي يخترق الورش الثلاث يتعلق بالتصدي للخطر الإرهابي المتفشي بالطبعة الداعشية او تلك القاعدية وأخواتهما. لكن العملية الليبية تشكّل أولوية على أمن أوروبا، على نحو تفضحه التصريحات، لا سيما الفرنسية القلقة من تمدد تنظيم البغدادي، وما يمثله ذلك من مخاوف تسرّب الخطر نحو الضفة الأخرى للبحر المتوسط، على ما أظهرته اعتداءات باريس، وبدأت تؤكده المعلومات التي باتت تتحدث عن وجود عسكري غربي باشر انتشاره على الأراضي الليبية.
الحالة اليمنية هي حالة سعودية خليجية بامتياز، يلعب الطرف الإيراني فيها دوراً مشاكساً ضاغطاً، بعدما فقد الأمل بهيمنة تتيح له إطلالة دولية من خلال باب المندب. بمعنى آخر يقوم دور تحالف «عاصفة الحزم» على إنتاج حلّ داخلي يفسّر سوْق المتفاوضين للتفاوض. وفي ارتباك النفوذ الإيراني في كل حدائق المنطقة المتاحة لهكذا نفوذ، ما يفسّر ترجّل الأزمة اليمنية من بُعدها الإقليمي إلى آخر بيتي يمعن العامل العسكري الخارجي في السعي الى حشره داخل البيت اليمني.
لكن علاج الحالة السورية يبدو الأكثر تعقيداً، ذلك أن للعلّة أسبابها السورية، لكن تفاقمها يعود لانخراط إقليمي معلن، يرفع خطورته تساكن معقّد لمصالح الغرب وتلك الروسية المطلة بجرأة على المسرح العالمي العام.
واللافت أن ما أظهره القرار الأممي الأخير في شأن سورية يعكس عزماً على فرض تدخل خارجي على الأطراف السورية، كما على تلك الإقليمية، بما يعكس- إذا كان هذا السعيّ جدياً- أن الدول العظمى ما زالت، إذا ما صدق اتفاقها، سيدة الموقف في تقرير مصير الأمم المتوسطة والصغيرة.
يبدو إعلان تشكيل تحالف إسلامي لمكافحة الإرهاب استجابة للإشارات التي أرسلتها العواصم الكبرى في شأن مزاج واحد إزاء المأزق السوري، فيما تعبّر المهادنة التركية للغضب الروسي بعد حادث اسقاط السوخوي الروسية، عن إدراك أنقرة هذا الانسجام الغربي (الأطلسي) مع روسيا (والصين) في فرض رؤى خارجة عن المنطقة لبناء مسالك الحلّ السوري.
وإذا أفرجت الأسابيع المقبلة عن نجاح النظام الدولي الجديد، الذي نشهد تشكّله ونراقب تحوّلاته، في فرض المخارج الليبية واليمنية والسورية، فهذا يعني أن ظلال التحوّلات العتيدة في العالم العربي هي قيّد التشكّل، على نحو ما زال يحترم تفاهمات سايكس بيكو، ولا يتيح اختراقات دراماتيكية كما أوحت إيران غداة اتفاقها النووي، وكما أوحت تركيا الأردوغانية غداة اندلاع «ربيع» المنطقة.
يمثّل التقارب السعودي- المصري الأخير (المتمثّل بالدعم المالي والعيني الكبير الذي أعلن مؤخراً) حسماً لخيارات الرياض في التحالف مع القاهرة واهمال خيارات استراتيجية أخرى. في ذلك المزاج السعودي ما قد يُستتبع ذهاب المنطقة الخليجية في هذا الاتجاه، وهو بالمناسبة مزاجٌ يقترب من ذلك الروسي، وقد يجرّ معه المزاج التركي المنحشر في موقف معادٍ للقاهرة منذ الإطاحة بالإخوان المسلمين عن الحكم في مصر. ذلك أن حجج تركيا المعادية لمصر باتت ركيكة في موسم تطبيع علاقاتها مع إسرائيل والترويج لمنافع مستقبلها.
إيران ليست بعيدة عما يُعزف في المنطقة. يبدو ذلك جلياً في إقرارها بالهزيمة اليمنية وفي خضوعها للطباع الروسية في سورية، كما في إشارات إلى التفاهم مع السعودية. بات واضحاً أن الحلّ السوري لا يجاري الأهواء الإيرانية، وهو بالمناسبة لا يجاري تلك التركية والعربية، وأن الصيغة العتيدة التي تسوّقها تفاهمات فيينا وملاحقها النيويوركية تؤكدُ عودة الأقوياء لإعادة تنظيم اللعبة الإقليمية وتعديل شروطها، بما يمكّن من ضبطها ضمن هامش ما عرفناه من ضبط، حتى في أشدّ مراحل الحرب الباردة.
الحياة