الشعب السوري ما بينذلّ
بكر صدقي
استعصاء الوضع في سوريا، بعد انقضاء عام على بداية ثورتها الشعبية، هو العلامة البارزة اليوم في ربيع الثورات العربية. يبدو المشهد قاتماً لمن يراقب المجزرة الكبرى التي يرتكبها النظام العائلي الحاكم كل يوم، من غير أن يردعه رادع. كأن هذه الطغمة المجرمة، في دفاعها عن بقائها، تدافع في الوقت نفسه عن كل أعداء الحرية. بل كأنها تنكّبت مهمة وأد ثورات الحرية في بلاد العرب، نيابةً عن جميع الأنظمة التي ارتعدت خوفاً مذ رأت شبح الحرية المقلق الذي ظهر بدايةً في تونس وأخذ يتنقل من بلد إلى آخر.
قالوا إن الحالة السورية تختلف عن حالة الثورات في البلدان العربية الأخرى. هذا صحيح في نقطة واحدة على الأقل: تفوّقت الطغمة الحاكمة في همجيتها على جميع قريناتها. كذا في كذبها، وفي لامبالاة العالم أمام فظاعاتها. الحالة السورية مختلفة أيضاً في هذه الملحمة البطولية لصمود ثورتها برغم كل هذا التنكيل.
إذا كان ما يجمع الثورات الخمس الكبرى هو اندلاعها في جمهوريات تحكمها طغم عائلية فاسدة، فسوريا هي البلد الوحيد الذي تحقق فيه التوريث فعلاً، مقابل مشاريع التوريث التي طوتها ثورات شعوبها في الجمهوريات الأخرى. لذلك لا أغامر كثيراً إذا قلتُ إن مصير ثورات الحرية في بلاد العرب يتوقف اليوم على نجاح الثورة السورية أو إجهاضها. في هذا المعنى، فالشعب السوري الثائر من أجل حريته وكرامته، يخوض، في الوقت نفسه، معركة الحرية الأفدح ثمناً عن كل الشعوب العربية. انتصار الثورة السورية سوف يعني استئناف موجة الثورات التي تلكأت عند أبواب دمشق، وإخمادها سوف يعني ضياع فرصة تاريخية لن تتكرر ليمسك العرب بمصيرهم مرةً واحدة وأخيرة.
استفادت النزعات النكوصية في البلدان العربية التي نجحت فيها الثورة في اطاحة طغمها العائلية الحاكمة، من استعصاء الثورة السورية المديد، فأخذت تعمل على استعادة زمام المبادرة من جديد. هذا ما نتابعه في تونس ومصر وليبيا واليمن. في المقابل، الخط المتعرج الذي تمضي فيه الأحداث في هذه البلدان، يمنح الطغمة العائلية المجرمة في سوريا مزيداً من أسباب الصمود. فتعثر الثورات السابقة يقوِّي نزعات التشاؤم لدى الشعب الثائر في سوريا. وهي نزعات تتغذى أصلاً على عوامل سورية لا يستهان بقوتها، أهمّها الخوف من الفتنة الأهلية المتعددة الطرف، انتشار السلاح بصورة عشوائية، كثرة اللاعبين العرب والدوليين على الساحة السورية المفتوحة إلى أقصاها، والخوف من انهيار الدولة التي سلّمت الطغمة الحاكمة مصيرها لعصابات الشبّيحة.
لكن عوامل التفاؤل لا تقل عن عوامل التشاؤم قوةً. ليس فقط أن ما يسمّى بمنطق التاريخ هو مع انتصار ثورة الحرية، وأن نظاماً بمواصفات العائلة الحاكمة هذه تجاوزه التاريخ، بل هناك ما هو أهم، أو ما هو التجسيد العملي للمنطق المذكور: إرادة القوة لدى شعب انتصر على الخوف مرةً واحدة وأخيرة. ذلك البريق الغريب الذي تراه في عيون السوريين، يخبرك أنهم أسقطوا النظام منذ تلك التظاهرة الأولى في سوق الحريقة وسط دمشق، في 17 شباط 2011، وهتفوا ملء حناجرهم: الشعب السوري ما بينذل!
لقد ثأر التاريخ للشعب السوري ممن داسوا على كرامته مدى نصف قرن. لم يتهزأ ديكتاتور عربي كما تهزّأ بشار الأسد. لم يواجَه أي يدكتاتور عربي غيره بشعار يلعن فيه الشعب روح أبيه في قبره. لم تتم معاقبة أي ديكتاتور غيره في أمه وأخته وأخت زوجته وزوجة أخيه وأختها، كما فعل الاتحاد الأوروبي مع هذه العائلة. لم تنكشف فضائح البريد الألكتروني لأي ديكتاتور غيره.
أمام كل هذه البهدلة، لا يزال جلاّدوه يرغمون أسراهم على الهتاف بألوهية بشار وأخيه. فإذا بلغ إله أزلام النظام هذه الدرجة من الضعة والهوان، فاعرف أنه ساقط وأن الثورة ماضية نحو نصرها الأكيد.